جذبت مصر عبر تاريخها الطويل العديد من الرحالة والمؤرخين والمغامرين الذين جاءوا اليها بحثاً عن الجوانب الخفيه من تاريخها وثقافتها. اليوم تسيطر سياحة الشواطئ على المشهد السياحى فى مصر بينما يغفل الجميع ما تذخر به مصر من ارث ثقافى وفنون شعبية.

كانت مصر دوماً وجهة للمغامرين والمستكشفين منذ ايام البطالمة و مرورأ بالعرب من عهد الإمبراطوريه الإسلامية وصولاً الى العصر الحديث.  وقد اهتم هؤلاء المستكشفون والمغامرون فى كثير من الأحيان بالبحث عن “الجانب الخفى” من مصر: تاريخها القديم بجوانبه المتعددة، تراثها الشعبى، التقاليد الإجتماعية والطقوس الدينية التى مارسها  المصريون.

الا ان السياحة في مصر في الوقت الراهن اتخذت منحى  مختلفا. فغالبية المسافرين القادمين الى مصر إنما يأتون  للإستمتاع بالبحر والشمس والرمال (نموذج الـ3 S – Sand, Sun & Sea، المعروف فى مجال السياحه).

فبينما ذهب اكثر من 75% من السائحين الذين زاروا مصر فى عام 2009 الى  شواطيء البحر الأحمر و سيناء ٬ فقد ذهب ما لا يزيد عن  4.4%  منهم الى الأقصر وأسوان.

وبالتدقيق في وجهة الإستثمارات فى قطاع السياحة والفندقه فإنه يتأكد لنا أن السائحين  لا يستهلكون إلا المنتوج  السياحي الذى يجرى الترويج له.  والواقع  يشير الى أن أكثر من 55% من مجموع الغرف الفندقيه الجديده التى يجرى بناءها تقع على طول ساحل البحر الأحمر و جنوب سيناء.

علاوة على ذلك فمصر-  كما اعلن مؤخراً وزير السياحة –  تهدف للوصول لـ30 مليون سائح سنوياً.  فكيف سيتحقق هذا الهدف خلال السنوات العشر القادمة؟

لعلنا لاحظنا في الآونة الأخيرة أن مصر تسعى بإستمرار إلى فتح أسواق سياحية جديدة  فى محاولة منها  للحفاظ على عدد السائحين القادمين لها سنوياً.  ولكن، هل يتم هذا بشكل سليم؟ وهل ستتمكن مصر من إستقدام 30 مليون سائح سنوياً؟  كيف تستطيع مصر ان تقدم لزائريها تجربة سياحية فريدةعوضا عن السياحة الشاطئية التقليديه وسياحة الأفواج الكبيرة للمناطق الأثريه؟  هل تملك مصر موارد أخرى للسياحة  التى قد تمثل شكلاً جديداً جاذباً للسائحين؟

الغرض من السطور التالية هو استكشاف واحدة من إمكانيات مصر التى يمكن- بل ينبغى- طرحها كوسيلة لتنويع المنتوج  السياحي الذى تقدمه مصر لزائريها.  و من المحتمل أن يجذب هذا المنتوج المقترح نوعاً جديداً من السائحين الذين  لديهم اهتمامات أخرى غيرالإستمتاع بالشواطئ وزيارة الآثار.

فرقة مزاهر تؤدي موسيقى الزار بالمركز المصري للثقافة والفنون “مكان”

سياحة التراث الثقافى

يمكن تعريف سياحة التراث الثقافى ببساطة بأنها  انتقال الأفراد من بلد الى آخر للتعرف على مختلف أشكال التراث الثقافى به. سواء كان ذلك تراث ثقافياً ملموساً (المعابد والمساجد والمتاحف) أو غير ملموس (احتفالات تقليدية وفولكلور).

معضلة سياحة التراث الثقافى

تعد سياحة التراث الثقافى من الموضوعات المثيره للجدل، لكونها تضم مجموعة واسعة من المساهمين و المستفيدين  كوزارة الآثار ، ووزارة السياحة  والمجتمع المدني، وغيرهم. وكل واحد منهم لديه هدف ومصلحة مختلفه. فوزارة السياحة معنية  فى المقام الأول على استقدام  أكبر عدد ممكن  من الزائرين لتحقيق أكبر عائد ممكن. بينما ينصب اهتمام وزارة  الآثار على الحفاظ على المواقع الأثرية وسلامتها، الأمر الذى لن يتحقق سوى بخفض عدد الزائرين للأثار والمناطق التاريخيه وهو ما يتعارض مع الهدف من السياحة . وبناء على ذلك، فإنه قد جرت  العادة على أن يتم إقحام  طرف ثالث يضمن توازن المعادلة الصعبه. فمن ناحية  يتأكد أن السياحة لتلك المواقع تحقق عائدا يسهم فى الإقتصاد المحلى و فى ذات الوقت لا يهدد سلامة الآثار. 

الشئ نفسه ينطبق على التراث الثقافى كالفن الشعبى والطقوس الإجتماعيه التقليديه والفلكلور وغيرها، فتسويقها سياحياً يجب ألا تحولها إلى سلعة استهلاكية  تفقدها قيمتها و وقارها.

لماذا الإهتمام بسياحة التراث الثقافى

 الجواب بسيط للغاية، فسياحة التراث الثقافى – في السنوات القليلة الماضية  – أصبحت المفضلة لدى السائحين على مستوى العالم . ومن المعلوم ان شركات السياحه ليست هى المستفيد الوحيد من سياحة التراث الثقافى. فهذا لنوع من السياحة يفتح الباب على مصراعيه  لخلق فرص عمل فى مختلف الصناعات والخدمات المرتبطة به، والتى يسهم الكثير منها فى الواقع فى حماية التراث الثقافى نفسه. فصناعة الألات الموسيقية التقليديه مثلاً، تحتاج الى أن ينمو السوق الخاص بها. كما أن تسجيل وبيع الموسيقى الشعبية يحافظ بلا شك على الفنون الموسيقية المعرضة للإندثار. الشئ نفسه ينطبق على الملابس التقليديه، حتى وإن كانت تستخدم فقط للإستعراضات الفنية.

اذاً، ما الجديد؟

كانت مصر لعدة قرون مضت وجهه سياحية للتراث الثقافى، الا انها أصبحت فى الحقبة الأخيرة تعتمد بشكل رئيسى على زيارات الأفواج للمواقع الأثرية والمنتجعات الشاطئية. ولكن، ماذا عن التراث الثقافى لمصر؟ هل تم تقديمه كمنتج سياحى من قبل؟ ربما، ولكن بشكل محدود. فالرحلة السياحية التقليدية فى مصر، غالباً ما تتضمن عرض فولكورى ، ولكنه فى نهاية الأمر لا يمثل سوى جزءاً ضئيلاً من البرنامج السياحى. وتعد رقصة التنورة هى أشهر العروض المقدمة للسائحين فى الفنادق والمطاعم النيلية العائمة. ولكن هذه العروض يشوبها نواقص كثيرة، فكونها تعرض خارج مكانها الطبيعى وسياقها التقليدى، يحولها فى نهاية الأمر لفقرة  ترفيهية بحتة بدلا من كونها فى الأصل تجربة ثقافية تعبر عن تقليد شعبى. ونلاحظ أيضاً أن تلك العروض نادراً مايصاحبها معلومات حول خلفيتها الثقافيه أو مناسباتها أو مصدرها. فعروض التنورة تقدم غالباَ على مسرح صغيروتحت أضواء الديسكو الملونة مما يضفي عليها طابعاً تجارياً فجاً. والأشد غرابة انه في بعد الأحيان يتم تقديمها فى إطار ليلة بدوية؛ أى فى بيئة غريبة عنها  تماماً.  ناهيك عن كونها مصحوبة فى أغلب الأحيان بفقرة رقص شرقى وبوفيه مفتوح، الأمر الذى يبعد بها كل البعد عن كونها تجربة ثقافية فريدة.

وعلى الرغم من أن عروض التنورة تحظى بشعبية لدى جميع شركات السياحة إلا انها نادراً ما تترك انطباعاً دائماً لدى المشاهدين لها.  فعلاوة على أنها تقدم خارج بيئتها الطبيعية وسياقها وبدون معلومات عن أصلها وخلفيتها، فهى لا توفر اى اتصال مع المجتمع المحلى، او المؤديين لها. فيتحول الأمر فى النهايه الى مجرد فقرة ترفيهية.

ربما من الأجدى ان نعطى مثالاً واقعياً للتجربة الثقافية الحقيقية التى نتحدث عنها. فمهرجان ” شخصيات مصرية” مثلاً هو مناسبة تعقد سنوياً كل عام ويعرض فيه جوانب مختلفة من هوية مصر الثقافية من خلال مجموعة من الفعاليات يجتمع فيها العديد من الجماعات العرقيه من جميع أنحاء مصر. ويقضى الحضور ثلاثة أيام مع  القبائل القادمة من شتى أنحاء مصر ليتعرفوا عليهم ويشاركوهم الأنشطة الجماعية، ويتناولون معهم المأكولات التقليدية . وبنهاية الأيام الثلاثة، تكون أواصر المودة والصداقة قد ربطت بين الجميع بعد ان عايشوا تجربة تبادل ثقافى حقيقية وواقعية.

احد فعاليات مهرجان “شخصيات مصرية” المقام في 2009

تصوير احمد هيمن

كيف تتطور مصر سياحياً؟

بالنظر الى ما تقوم به البلدان الأخرى، نرى أن المغرب، على الرغم من محدودية مواردها السياحية المادية، إلا أنها تستقبل عشرة مليون سائح سنوياً. كيف استطاعت المغرب تحقيق هذا النمو المتطرد فى أعداد السائحين وهى لاتملك سوى عدة قصور ومساجد وأسواق وشواطئ عادية جداّ؟

للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نلقى نظرة سريعة على حملتهم السياحية الرسمية، وسنلحظ على الفور أن المغرب تعتمد اعتمادا كبيرا على تراثها  الثقافى اللا مادي اكثر من معالمها السياحية وشواطئها. فالمطبخ المغربى بأكلاته الشهية، والمشروبات المميزة للمغرب وادوات تقديمه الجذابه، وكذلك الزى التقليدى الجميل ، اضافة الى الصناعات التقليدية المميزه، كلها اشياء تجعل من المغرب مقصداً سياحياً فريداً ومميزاً.

وإذا نظرنا لتركيا كمثال اخر، نرى ان الحكومة التركية قد دمجت وزارتي الثقافة والسياحة فى كيان واحد، فى اشارة واضحة على إدراك الدولة الصلة الوطيدة بين هذين العالمين . وتعتمد تركيا فى حملاتها الترويجيه على إبراز الهوية الثقافية والتنوع فى البلاد بإعتبار ان المكون التراثى والتاريخى ليس هو العنصر الأقوى فى المنتج السياحى التركى. ومع هذا، تهدف تركيا للوصول لتحقيق عائد من السياحة يقدر بـ 66.8 مليار دولار بحلول عام 2023. وسوف تتمكن من تحقيق هذا بالربط بين السياحة البرية وسياحة الشواطئ التى طالما اشتهرت بها. ومن هنا يتضح ان الدول السياحية الناجحه تتجه نحو التركيز على سياحة التراث الثقافى لتحقيق اهدافها التنموية الطموحة والمستدامة .

إن ثروة مصر من الموروث الثقافى مكون سياحى كبير لم يتم استغلاله بعد بشكل كبير لجذب شرائح جديده من السائحين. علينا ايضاً أن نهتم بإنشاء صناعات صغيرة ومؤسسات تهتم بخدمة هذا المكون السياحى الجديد فى حملات الترويج.  فمصر، كغيرها من الدول، تستطيع ان تمنح زائريها تجربة فريده تقربهم من ثقافتها وتقاليدها بشكل أعمق بما يجعل زيارتهم لها لا تنسى.

نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ٤ ، ٢٠١٣