المقابر الفرعونية، بما احتوته من رسوم ونقوش، تعرفنا بزمان سادت فيه ثقافة وحضارة كانت تقدس الترابط العائلى وحسن تربية الأبناء. فمن نصائح الحكيم بتاح حتب لإبنه المقدم على الزواج، الى شكل البيت العائلى المصرى، يمكننا التعرف على الكثير من ملامح الحياة العائلية فى مصر الفرعونية.

السلام عليك أيها الإله الأعظم.. إله الحق

لقد جئتك يا إلهي خاضعاً.. لأشهد جلالك

جئتك يا إلهي متحلياً بالحق، متخليا عن الباطل

فلم أظلم أحداً.. ولم أسلك سبيل الضالين

لم أحنث في يمين.. ولم تُضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي

ولم تمتد يدي لمال غيري

لم أكن كاذباً ولم أكن لك عصياً

ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده

لم أوجع ولم أُبك أحداً

وما قتلت وما غدرت

بل وما كنت محرضاً على قتل

لم أسرق من المعابد خبزها.. ولم أرتكب الفحشاء.. ولم أدنس شيئا مقدساً

لم أغتصب مالاً حراماً.. ولم أنتهك حرمة الأموات

لم أبع قمحاً بثمن فاحش.. ولم أغش الكيل

أنا طاهر.. أنا طاهر.. أنا طاهر..

وما دمت بريئاً من الآثام، فاجعلني يا إلهي من الفائزين

من “كتاب الموتى”

آمن المصريون القدماء بأن الموت ليس إلا رحلة عبور من عالم الحياة المؤقتة إلى عالم الحياة الدائمة والأبدية. فسعوا إلى تحنيط جثث الموتى لتحل بها الروح وتعيش ثانية للأبد، ووضعوا مع الميت كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب وأدوات ليستعين بها فى حياة الخلود، وزينوا مقابرهم برسوم ونقوش توثق تفاصيل حياتهم اليومية التى يرغبون فى أن يحيوها فى الحياة الأخرى. وهكذا، أضحت مقابر المصريين القدماء بمحتوياتها ونقوشها الجدارية بمثابة ديوان لحضارة وادي النيل، نتعرف منها على ملامح الحياة اليومية في مصر القديمة.

فماذا يا تُرى تخبرنا نقوش مقابر النبلاء بالجيزة وسقارة والأقصر عن الحياة اليومية في مصر القديمة؟

حكايا الأسرة: الزواج والآباء والأبناء

كان المجتمع المصري القديم يحث على الزواج المبكر لمكافحة الانحلال الأخلاقي. وكان المصرى القديم المنتمِ للطبقة العليا يتزوج بإمرأة واحدة فقط، لتكون أماً لأبناءه الشرعيين. ولم تكن عقود الزواج معروفة آنذاك، وليس هناك ما يدل على مراسم خاصة للزواج، وغالباً ما كانت العروس تتوجه بنفسها إلى بيت الزوج الذى ارتضته هي وأسرتها.

وكانت التزامات الزوج تجاه زوجته واضحة ومححدة، كما يبدو من بردية “بتاح حتب” [1] التي يرجع تاريخها إلى قرابة 4500 سنة مضت:

“إن كنت رجلاً ناجحاً
فأسس بيتاً
وأحبب زوجتك التي به
أشبع جوفها
واستر ظهرها
وعالج جسدها بالزيوت العطرية
أسعدها طالما حييت
فهي حقل مثمر لسيدها”

ويحذر “بتاح حتب” من اشتهاء النساء الغريبة قائلاً:

“إذا كنت تريد أن تكون موفور الكرامة فى أي منزل تدخله
سواء كان منزل عظيم.. أو أخ.. أو صديق
فلا تقرب النساء
فما من مكان دخله التعلق بهوى النساء إلا وفسد
ومن الحكمة أن تجنب نفسك مواطن الشطط والزلل
ولا توردها موارد التهلكة
فإن آلافاً من الرجال أهلكوا أنفسهم.. وعملوا على حتفهم
من أجل تمتعهم بلذة عارضة.. تذهب كحلم.. فى لمح البصر”

وكان الأب هو السلطة العليا فى البيت – الذي تميز بالنظام والإنضباط – وكان يتولى تربية الذكور من الأبناء، وتنشئتهم على معرفة الصواب والخطأ. فيقول أحد الحكماء:

“إذا كنت رجلاً عاقلاً
فليكن لك ولد
تقوم على تربيته وتنشئته
فذلك شئ يسر الآلهه ماعت”

وفي مصر القديمة، كانت الآلهة “ماعت” تمثل العدالة والسلوك القويم، ثم تطورت لتصبح رمزاً لروح الهداية والإرشاد للبشر. فكانت تشير إلى وصول الكون إلى حالة من التناغم، كشروق الشمس كل صباح من جهة الشرق، وكعودة الأرض للحياة والزرع للنماء مرة اخرى بعد انتهاء موسم الحصاد.

ومن أمثلة التعاليم التي يلقنها الأب لأبنائه الذكور، يقول بتاح حتب مخاطباً إبنه:

“لا تكن مغتراً بعلمك
ولا تأمن لكونك من المتعلمين
تشاور مع غير المتعلم كما تتشاور مع المتعلم
فحدود العلم لا يمكن الإحاطة بها
وما خفي من الحكمة أندر من الأحجار الكريمة
لكنك قد تجدها عند إمرأة تدير الرحاية
إذا إلتقيت بأحدهم في عمله
قائدٍ.. وأعلى منك مقاماً
ضم ذراعيك.. وانحني له احتراماً.. ولا تستهن به
وإن لم يعاملك بالمثل.. فلا تتفوه بالسوء”

أما تربية الإناث، فكانت تُترك للأم. وكانت تشجعهم على تعلُم الغناء والرقص والعزف على الآلات الموسيقية. وكانت أكثر الوظائف شيوعاً بين الإناث هى وظيفة القابلة (الداية)، التى كان يُنظر إليها بإحترام كبير، بالإضافة إلى أعمال الغزل والنسيج.

وتعطينا نقوش جدران المعابد والمقابر كذلك فكرة واضحة عن حياة الأطفال فى مصر القديمة. فتصورهم بينما يسبحون فى الترع، ويصطادون فى البحيرات، ويرقصون في الشوارع في الاحتفالات، مستمتعين بهواء مصر العليل وشمسها المشرقة.

وكان المجتمع ينظر للأطفال كبناة للمستقبل، ولذلك كان ما يُدّرس لهم فى الكتاتيب يولى اهتماماً كبيراً. فكان الاطفال يحثون على حفظ أسماء الحكماء القدامى الذين تركوا خلفهم نصائح وتعاليم سلوكية وأخلاقية، بينما لم تُدّرس لهم مآثر الأبطال أو ما يُعلي من أهمية القوة الجسمانية مثلاً.

وتشير نقوش المقابر إلى احترام الأبناء لآبائهم وأمهاتهم. وكان الأبن البار لا يقصر في توفير نفقات أفضل تحنيط ودفن لأبيه.

حكايا البيوت: مساكن البسطاء والنبلاء

كانت مصر بلداً زراعياً، معظم سكانه من الفلاحين. فبنوا بيوتهم باستخدام الطوب الني، أو البوص والطين. وكانت البيوت تتكون من حجرة واحدة، بيضاوية أو مربعة الشكل، لها باب واحد، وبدون نوافذ. وكان يتم تزيين الحوائط بأبسطة من البوص، وتتدلى منها سلال وأوانٍ فخارية تستخدم للخزين. أما الأثاث، فكان نادراً.

وكانت البيوت الريفية رحبةً، جيدة التهوية، وملائمة للأجواء الحارة بنوافذها الشبكية، وساحاتها الواسعة، وجدرانها البيضاء. أما الأرضيات، فكانت فى معظم الأحيان مكسوة بقراميد من الفخار.

ولم تكن هناك مشكلة قمامة فى مصر القديمة: فبقايا الطعام كانت تُلقى للحيوانات المنزلية، وتُستخدم قطع الفخار المكسور في الكتابة عليها.

ومن ناحية أخرى، تُظهر العديد من النقوش تفاصيل حياة النبلاء. فنجد مناظر متعددة للنبلاء جالسين مع أهال بيوتهم فى ظلال الشجر، مستمتعين بالنسيم العليل، أو أثناء رحلات الصيد فى نهر النيل. كذلك تشير الكثير من النقوش إلى قيام النبلاء والنبيلات بإدارة ممتلاكاتهم بفخر وحماس: فنرى منظراً يمثل النبيل جالساً على كرسي محمول على الأكتاف أثناء مروره فى جولة تفتيشية على مزارع العنب أو مخازن الغلال في أراضيه، التى كان بها ايضاً مصايد للأسماك ومصانع للجلود والبردى والأثاث والنسيج. وكان الرجال الذين يحملون النبيل بالكرسي أثناء تجواله في أراضيه يغنون قائلين أن الكرسي خفيف وكأنه خاو إذا ما جلس عليه سيدهم.

وكان لبيوت الأثرياء أنظمة متقدمة لصرف المياه – كما تدُلُنا أطلال بعض البيوت التي تم الكشف عنها بالجيزة. فكان يتم تصريف المياه فى حُفر يتم تغطيتها بأقراص معدنية، وتفريغها عن طريق مواسير مصنوعة من النحاس. وتُعد دورة مياه تم الكشف عنها فى مقبرة ترجع للأسرة الثانية فى منطقة سقارة – ترجع لحوالي 3000 سنة قبل الميلاد – هي أول دورة مياه عرفها التاريخ.

حكايا الجسد: النظافة والجمال

كان المصريون القدماء شديديى الاهتمام بالنظافة الشخصية. فكان الرجال والنساء على حد السواء يغسلون اجسادهم بعناية قبل الأكل، مستخدمين أوانٍ كبيرة وأوعية بمزاريب لصب المياه. كما كانوا يزيلون الشعر الزائد عن أطرافهم بواسطة شفرات مصنوعة من البرونز ذات حواف محدبة. وقد عرفوا كذلك المُلقاط والمكشطة لفرك الجلد وتنعيمه. أما الشعر، فكانوا يولونه عناية خاصة: فبعد غسله، يتم تدليكه بالزيوت وتصفيفه على شكل لفائف أو جدائل رفيعة. وانتشر كذلك استخدام الشعر الاصطناعى ووصلات الشعر، إذ أنه توجد دلائل على استخدام النساء للجدائل الصناعية لإظهار الشعر بمظهر أكثر كثافة منذ الأسرة الأولى.

حكايا المهن: صيادون وفلاحون وخبازون

احتوت مقابر النبلاء أيضاً على مناظر كثيرة لملامح حياة الناس الأقل منهم ثراء ومكانة، كمنظر الصيادين وهم يجففون الأسماك فى الشمس أو يصلحون شباك الصيد والشراك، ومنظر الفلاحين يطعمون الأوز أوينثرون الحبوب فى الأرض، ومنظر العمال يعصرون النبيذ فى كرمة العنب. وهناك إيضاً منظر لفلاح عاٍر حافِ القدمين يحمل نعله فى يده، يضع كيساً ثقيلاً فوق كتفه فى طريقه إلى السوق. ومنظر آخر لخباز وزوجته يعجنون الدقيق.

حكايا الترفيه والمتع: الصيد والموسيقى

كان الترفيه فى مصر القديمة ممكناً حسب الحالة الاقتصادية وحالة الطقس والفرص المتاحة. ومع اهتمام المصريين القدماء بتربية الطيور والحيونات، تخبرنا العديد من المناظر الخاصة بالحياة اليومية أن أكبر المتع كانت تتمثل في النزهات النهرية بحثاً عن الطيور المائية، ورحلات الصيد والقنص فى الصحراء، وصيد الأسماك فى الترع والبحيرات.

وكذلك كان لدى المصريين القدماء اهتمام كبير بالموسيقى، وحب للإيقاع. فكان عازفو الناي والمغنون دائماً ما يصاحبون الصيادين والفلاحين أثناء قيامهم بأعمالهم. ولدينا منظرٌ للفلاحين يغنون أغنية الحصاد، يتقدمهم فلاح يحمل منجلاً ويصفق، وآخر يعزف على الناى. كما توجد مناظر عديدة تبين طابوراً من النساء يصفقن فى انسجام أثناء المناسبات الهامة.

[1] عاش “بتاح حتب” في أواخر القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد وأوائل القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وكان وزيراً في عهد الفرعون “جد كا رع”، مؤسس الأسرة الخامسة. ويُنسب إليه كتابه “تعاليم بتاح حتب”، وهي مجموعة من الأحكام والنصائح حول العلاقات الإنسانية، موجهة من بتاح حتب لابنه.

نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ٣ ، ٢٠١١

الأكثر قراءة

اكثر انواع الزينة ديموقراطياً
تزيين الشعر فى مصر القديمة

كان الشعر للمصري القديم جزءاً ً من هويته، وعنوانا لمستواه االجتماعي وانتمائه الديني وحتى مهنته، وكان المصريون يبدعون فى ابتكار تصفيفات للشعر الطبيعى والمستعار للنساء والرجال على حد سواء.

استنساخ المقابر الملكية

الاستعانة بخبرات شركة ”فاكتوم آرتي“ في التقنيات الحديثة لتنفيذ نسخ طبق الأصل من مقابر البر الغربي

يوم فى حياة فرعون مصر

يتم تصوير الفراعنة دائماً كقادة عظام ومحاربين لا يهابون الموت، ودائمى التعبد للألهة ، لكن الحقيقة قد تكون ابعد كثيراً عما عرفه الناس واعتقدوه. الباحث جارى شو يبحر بنا فى الجانب الإنسانى لفرعون مصر،ويرسم لنا صورة ليوم عادى فى حياة احد فراعنة الدولة الحديثة

هل تعلم؟

هل تعلم ان يوماً ما كانت الذبابة تعد رمزاً للشجاعة والمثابرة؟ حتى ان المصرى القديم صنع منها قلادة ونيشاناً؟ او ان مسحوق المومياء كان مسكناً كالأسبرين ووصفة سحرية استخدمها الأوروبيون الأثرياء لعلاج العديد من الأمراض والعلل؟

جولة فى مطبخ الشيف ميريبتاح

اخبرتنا النصوص المصرية القديمة ورسوم جدران المقابر الفرعونية بمعلومات كثيرة عن نوعية الأطعمة والمشروبات التى عرفها المصرى القديم. كما قاومت بعض بقايا الحبوب والمأكولات التى عُثر عليها عوامل الزمن وبقيت لتخبرنا قليلاً عن فنون الطهى عند الفراعنة.