من الصعب العثور على حلي نوبية في النوبة اليوم. فقد يجوب المرء أسواق أسوان وكوم أمبو، أوحتي دراو ) حيث يوجد سوق الحلي والمصوغات الرئيسي) حتى يجد بالكاد قطعتين أو ثلاث قطع من الحلى النوبية التقليدية.
يقع إقليم النوبة فى جنوب مصر على ضفاف النيل، ويمتد تاريخه إلى ما يزيد عن خمسة الاف عام. ويقع الإقليم اليوم ما بين مدينة أسوان والعاصمة السودانية الخرطوم. وإسم النوبة فى اللغة القبطية ( نب ) إذ أن منطقة النوبة هى المنطقة التى كان قدماء المصريين يجلبون الذهب من مناجمها، لهذا اطلقوا عليها “بلاد الذهب”.
وكانت النوبة القديمة تضم ثلاثة فروع، أولهم وأكبرهم هو “الفديكات”، ويتحدثون لغة “المحس”. وكلمة “فديكات” تعني “أولئك الذين فروا من الجنوب”. أما الفرع الثاني فهو “الكنوز”، وتعني “القادمون من الشرق”. وهم يتحدثون لهجة نوبية أخرى تسمي “ميتوكي”. أما الفرع الأخير، وهو الأصغر من حيث العدد والنفوذ، فهم النوبيون الناطقون بالعربية. وهم أصحاب التراث البدوي (العليقات) ويعتقد أنهم من نسل عقيل بن علي بن أبي طالب .
وفي عام ١٩٠٢، انتهي العمل ببناء خزان أسوان، وبدأت متاعب النوبيين. حيث غمرت مياه الخزان قراهم القريبة من الخزان، مما اضطر معه الأهالي للصعود الي الجبال وبناء مساكن جديدة عالية. وكلما زادت التعليات بالخزان زادت الهجرة، شمالاً أو جنوباً. وتزامن اكتمال بناء السد العالي في 1964 مع الهجرة النوبية الأخيرة، حيث طغت مناسيب بحيرة السد العالي علي مواضع القري النوبية المتبقية.
من الصعب العثور على حلى نوبية في النوبة اليوم! فقد يجوب المرء أسواق أسوان وكوم أمبو، أوحتي دراو (حيث يوجد سوق الحلي والمصوغات الرئيسي) حتى يجد قطعتين أو ثلاث قطع من الحلى النوبية التقليدية بالكاد.

سيدة ترتدي طقم حلي نوبي كامل: عقد الدُجة وبية ونُوجار وثلاث اقراط في اذنيها
من مقتنيات مكتبة الكتب النادرة بالجامعة الأمريكية
أين اختفى كل شئ؟
يعتقد معظم الباحثين – بما في ذلك “آن جيننغز” في كتابها “نوبيو غرب أسوان: نساء القرى في خضم التغيير” و”على زين العابدين” مؤلف كتاب “المصاغ الشعبي في مصر” – أن الحلى النوبية التقليدية ذات الجذور القديمة – والتي تطورت عبر قرون طويلة – قد بدأت في التراجع والاختفاء في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وقد كان السبب الأول هو ازدهار السياحة في النوبة عقب بناء السد العالى، والاهتمام الخاص الذي أولاه الرئيس الراحل أنور السادات بأسوان، حيث أدى ذلك إلى استبدال الحلي الفضية القديمة بحلي ذهبية مع مرور الوقت.
أما السبب الثاني، فكان تعرض إبناء النوبة لثقافة الخليج العربي في عصر الإنفتاح والسفر للعمل في الخليج، حيث جري استبدال الذهب و الحلي التقليدية التي عرفت بها النوبة بأنماط أخري من الحلي المنتشرة. حيث اعتاد الرجال النوبيون الذي سافروا للعمل في الخليج أن يعودوا لزوجاتهم بقلادات ذهبية طويلة يتدلى منها مصاحف ذهبية كبيرة. ونظراً لكون المصحف الشريف رمزاً دينياً صريحاً ومحبباً، فإن تلك القلادة قد لاقت إنتشاراً سريعاً بين نساء النوبة كرمز للثراء وللمكانة، لتحل بذلك محل المجموعات التقليدية المتقنة الصنع من الفضة والذهب الخالصين التي كانت تشكل مهر العروس النوبية. وما زاد الأمر سوءاً هو أن النساء النوبيات بدأن في بيع القطع القديمة التي كن يمتلكنها لصهرها وتحويلها إلي تصميمات أكثر حداثة، ولكنها عامة وعادية.
الحلى النوبية… تقاليد و”بروتوكولات”
من المعروف أن المرأة النوبية تعتز بمصاغها جداً لدرجة أنها ترتدي قلادتها الذهبية حتي أثناء يوم عملها الطويل الشاق في الحقل. وتعكس الحلي النوبية المكانة: فالحماة التي تريد إظهار تقديرها واحترامها لزوجة ابنها مثلاً، لا تزورها إلا وهي في كامل الزينة والأبهة، مرتدية أفخر حليها. أما إذا زارتها وهي في هيئة عادية وترتدي حلياً متواضعاً، فهذا يعكس نظرة دونية لزوجة الابن وعائلتها.
ومن التقاليد النوبية ايضًا، عدم ارتداء الأرملة للحلي بعد وفاة الزوج، باستثناء قطعة واحدة من المصاغ، هي قلادة “الجاكيد” التي تكون جزءاً من جهازها للزواج. إلا أنها بعد وفاة الزوج ترتديها ملقاة للخلف علي الظهر بدلا من صدرها.
وتتلقى الفتاة النوبية الصغيرة هدايا ذهبية منذ الطفولة، وهي في معظمها قطع متوارثة داخل العائلة. وعند وصولها لسن الزواج، تكون الهدايا المقدمة لها من نساء العائلة قطعا أكبر وأقيم.
وعلى الرغم من التنافس بين الفروع النوبية الثلاث (الكنوز والفاديكات وعرب العليقات) لإثبات تمايزها بتراث خاص عن الفروع الأخرى، إلا أنه فيما يتعلق بالحلي – وخاصة مهر العروس – لا يختلف الأمر إلا قليلاَ بين الفروع الثلاث.
مصاغ العروس النوبية
قلادة ” الجاكيد”
هي أهم قطعة في مصاغ العروس النوبية. وتتكون من ست قطع مسطحة، وحبات ذهب مستديرة، وفي الوسط منها الميدالية الرئيسية. ومعظم حبات الذهب في الحلي النوبية يرجع أصلها إلى العصر الفرعوني. إلا أن القطع المسطحة المستديرة من قلادة “الجاكيد” هي الأكثر اتصالاً بالحضارة الفرعونية، حيث ترجع جذورها إلى قرص الشمس للآله آمون رع.
قلادة ” النوجّار”
هي قطعة منتشرة بين نساء النوبة، باستثناء نساء الفاديكات. وربما تستلهم النوجّار أقراصها المدورة من الطبول المزدوجة التي تحمل نفس الاسم.
وقد إستُخدمت قلادة النوجّار ايضاً منذ القدم كتميمة للحماية من الحسد، حيث تشبه الاقراص المزينة بزهور خماسية (مثل الخمسة وخميسة) شكل العيون والحواجب.
قلادة “الدوجا”
وهي قلادة يعني اسمها “الشئ الثمين”. وتتكون عادة من 24 حبة مخروطية من الذهب، وستة صناديق مربعة من الذهب كفواصل، و36 خرزة مثمنة من الذهب، ثم عدد من حبات العقيق – زرقاء أو خضراء اللون – لاستكمال العقد من الخلف. وتختلف عدد حبات الذهب في “الدوجا” تبعاً لاختلاف الذوق الشخصي لصاحبتها أو لقدرتها المالية .
وتشير بعض الدلائل إلى أن قلادة “الدوجا” كانت موجودة في مصر منذ آلاف السنين. ففي مقبرة الأمير “خوفو– خاف” – والذي ينتمي إلى عصر الدولة القديمة -عُثر علي رسم لزوجة “خوفو–خاف” وهي مرتدية قلادة من الخرز تشبه جداً قلادة “الدوجا” من حيث التصميم .
عقد “البيه”
تلك القطعة هي رمز للمكانة الكبرى. ويتكون “البيه” من ست دلايات كمثرية الشكل – تكون معاً طوقاً كاملاً – منقوش عليها نجوم وأهلّة بارزة. وتوضع حبات الزيتونة النوبية الشهيرة بين الدلايات كفواصل. ويتوسط العقد دلاية تسمي “ماشاالله”، رغم أنها لا تحمل نقشاً بهذه العبارة. حيث تضع نساء الكنوز مثلاً هلالاً بدلاً من الميدالية.
ويقال إن كلمة “البيه” أو “البك” بالنوبية تعني “لامعة” أو “الوجوه اللامعة”.
الأقراط
تتخذ الاقراط النوبية أشكالاً عديدة، ولكل منها إسم مختلف. وتحظى الأقراط بشعبية كبيرة بين نساء النوبة، حتي أنهن في بعض الأحيان يرتدين ثلاثة أقراط في كل أذن، بدءًا من أعلى ثم في الوسط وحتي شحمة الأذن. ويسمي القرطان الأعلى والأوسط “تميم”، أما القرط الخاص بشحمة الأذن فيسمي “زمام كبير” أو “زمام بويا”.
والتميم – الذي غالباً ما يكون هلالي الشكل – عليه دق بارز لطيور ونباتات. أما الزمام الكبير، فهو كذلك هلالي الشكل، إلا أنه مقسوم من أسفل وعلى سطحه دق بارز لأشكال هندسية. ويبقي أن نشير إلى أن هذا الاسلوب في ارتداء الأقراط (ثلاثة) لم يعد يحظى بشعبية بين الشابات في النوبة .

عروسة ترتدي حلية جسة الرجمن على جبينها يوم فرحها
من مقتنيات مكتبة الكتب النادرة بالجامعة الأمريكية
جسّة الرحمن
وهي قطعة حلي تلبس أعلى الرأس، وتتكون من قطعة مثلثة من الأمام، يتصل بها قطعة مستطيلة تستقر أعلى الرأس. والمثلث هو أحد الأشكال الشائعة في الفن النوبي، ويرمز عادة إلى النجاح. أما إذا كان المثلث مقلوباً ورأسه متجهاً إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى، فيرمز في هذه الحالة إلى الأرض والماء. ويشبه شكل التصميم الداخلي لجسة الرحمن صليب الـ”تاو”، وهو آخر حرف من الأحرف العبرية والآرامية.
وفي مصر القديمة، كانت زهرة اللوتس تلبس بطريقة مماثلة لجسة الرحمن كقطعة حلى للرأس. ولهذا يرجح أن يكون أصل هذه القطعة مستمد في الأساس من الحضارة الفرعونية، ثم تأثر بالمسيحية التي كانت الديانة السائدة بين أبناء النوبة لحقبة طويلة – خاصة بين أبناء مجموعة الفاديكات الذين كانوا أخر من تحول إلى الإسلام بين النوبيين. وهو ما يفسر انتشار ارتداء جسة الرحمن بينهم حتي اليوم.
تراث لم يندثر تماماً
علي الرغم من كون الحلى النوبية قد أصبحت شحيحة جداً في الوقت الحالي، فإنها لم تندثر تماماً حتى الآن. فبالبحث والتنقيب سنكتشف أن معظم صائغي الحلي النوبية يعيشون اليوم في القاهرة، في الوقت الذي يبيعون فيه منتجاتهم في مدن وقرى النوبة. وربما يرجع السبب في ذلك إلى كون الحدادين وصائغي المعادن قد تعرضوا لوصمة تاريخية في النوبة، نظراً لأنهم كانوا يصنعون الأغلال التي كان يستخدمها تجار الرقيق. غير أن السبب الحقيقي لإزدراء هذه المهنة بين النوبيين يظل غير معروف علي وجه اليقين حتى يومنا هذا.
إذا ما رغبت في اقتناء قطعة حلي نوبية أصيلة ضمن القطع التي تناولها هذا المقال – مصنوعة من الذهب عيار 21 قيراطاً، أوالذهب البندقي غيار 23.5 قيراطاً – فعليك بالتوجه إلي متجر “أحمد عوض جاسر” في شارع التحرير بوسط القاهرة. حيث يقوم جاسر بصناعة كافة القطع التقليدية يدوياً، تماماً كما كان يصنعها أجداده في النوبة منذ مئات السنين.
الأكثر قراءة

يستحضر “جرجس لطفي” شخوص عالمه من أيقونات الكنائس القبطية في القرنين الخامس والسادس الميلادي، ويخلق أيقونات جديدة أبطالها الناس العاديون والمشاهد اليومية، ليوثق مصر التى يعاصرها اليوم.

اخوان من روم كاثوليك مدينة صيدنايا السورية يأتيان الى مصر فى عصر الخديو اسماعيل، ويؤسسان امبراطرية تجارية بقى اسمها حتى يوم فى مختلف انحاء القطر المصرى.

يحتاج الصائغ الى خلط الذهب والفضة بمعادن اخرى كالنحاس ليمنحهما بعض الصالبة لسهولة تشكيلهما. ومن ثم تطورت نظم الرقابه على صناعة الحلى عبر العصور حتى عصرنا هذا حيث يتم وضع شارة وحرف على كل قطعة منفردة تدخل فى صناعة الحلية.

على مر السنين، تجلى دق الوشم عند المصريين في أشكال كثيرة ومتنوعة: من أشكال هندسية تُدق بغرض الزينة أوالتداوي، إلى أشكال رمزية ذات مدلول ديني، وأخرى لوحوش أو شخوص رجالية أو نسائية. تلك الأشكال - باختلاف أنواعها والغرض من دقها - لافتة للنظر وجديرة بالتحليل.