كان الشعر للمصري القديم جزءاً ً من هويته، وعنوانا لمستواه االجتماعي وانتمائه الديني وحتى مهنته، وكان المصريون يبدعون فى ابتكار تصفيفات للشعر الطبيعى والمستعار للنساء والرجال على حد سواء.
في المرة القادمة التي ستسنح لكم فيها الفرصة بتأمل تفاصيل جدارية لمعبد أو مقبرة فرعونية، فلتسترقوا النظر إلى رؤوس القدماء، وتفحصوا بالتحديد شعورهم والشعر المستعار الذي يرتدونه: فنظرة واحدة إلى شعر المصري القديم تمكنكم من معرفة الكثير عن مهنته، ومستواه الاجتماعي، وحتي انتمائه الديني. فقد كان الشعر المصري القديم جزءاً من هويته، بغض النظر عن السن أو الثروة أو كونه ذكراً أو أنثى.
فى العصور القديمة، عندما كانت جميع الملابس مصنوعة من الكتان العادي – وكانت المجوهرات الثمنية حكراً على الأثرياء وعلية القوم – كان الشعر هو آداة الزينة الأكثر شيوعاً، كونها فى متناول الجميع. وكان ً الشعر الطبيعى قابلا للتصفيف بعدد لا يحصى من الأشكال المختلفة.
جاء معظم ما نعرفه عن الشعر عند المصريين القدماء نتيجة لدراسة متأنية لمشاهد الجداريات والتماثيل، التى بينت كيف تغيرت “موضات” الشعر مع الوقت، بحيث اصبح بمقدور علماء المصريات تحديد الحقبة الزمنية التى ينتمي لها كل عمل فني أثري طبقاً لتصفيفة الشعر. حتى أن المومياوات المحنطة هى الأخرى تكشف عن تنوع كبير في قصات الشعر. ومن جهة أخرى، أصبح التحليل المعملي للشعر قادراً على تقديم معلومات حول النظام الغذائي والصحة وأسلوب الحياة في تلك العصور القديمة.

تمثال خشبي للسيدة “تيي” ينتمتى للأسرة الثامنة عشر.
صورة ملك المتحف البريطاني
كانت قصات شعر المصريين القدماء تتنوع طبقاً لإعتبارات عملية ً ومناخية: فحرارة الجو مثلا كانت تدفع الرجال والنساء في كثير من الأحيان إلي حلق شعورهم. وكانت حلاقة الرأس بالنسبة للكهنة بمثابة واجب ديني، يقوم به حلاقون يعملون في المعابد. وقد علق المؤرخ اليوناني الرحالة “هيرودوت” على هذه الممارسة في القرن الخامس ً قبل الميلاد قائلا: “الكهنة المصريون يحلقون أجسادهم تماماً كل يومين للحماية من القمل الذي يتعارض مع طهارتهم المطلوبة لأداء الصلوات.”
وعلى الرغم من أن غطاء الرأس المصنوع من الكتان لدى المصريين ً القدماء كان كفيلا بتقليل الآثار الضارة لأشعة الشمس، إلا أن غطاء الرأس الأمثل كان هو الشعر المستعار. وهو ما يعني أن الناس كان يمكنهم التزين وارتداء تسريحات شعر معقدة، في حين تبقى رؤوسهم باردة نسبياً، نظراً لأن قاعدة الشعر المستعار كانت مصنوعة من شبكة خيوط بها فتحات تسمح بتهوية فروة الرأس.
صناعة الشعور المستعارة
منذ عصر بناة الأهرام، ورد ذكر مصففي الشعرفى النصوص القديمة، وكانوا فنيين مدربين كانوا يصنعون الشعور المستعارة أو”الباروكات” الملكية. أما الكهنة، فكان يخدمهم في هذا الشأن أفراد يحملون القاباً مثل “المشرف على صناعة الباروكات فى معبد آمون بالكرنك”. وكذلك ظهر على جدرايات المقابر مصففو الشعر وهم يضفرون الشعر، ويمشطونه، ويضيفون إليه وصلات الشعر المستعار. وكانت الباروكات والوصلات تصنع في ورش متخصصة، فيها أدوات مثل دبابيس الشعر والأمشاط وبعض الأدوات المصنوعة من البرونز لتقليم الشعر وتمويجه، إلى جانب أمواس الحلاقة البرونزية. إلا أن الخامة الأساسية التي يعتمد عليها فى تلك الورش كانت هي الشعر الطبيعي ويؤتى به من الشخص الذى تصنع من أجله الباروكة، أو يتم شراؤه من آخرين. ومن هذا الشعر الذى يباع ويشترى، كان صانعو الباروكات يبتكرون الوصلات والضفائر المتنوعة والجدائل المتموجة، وينسجونها فوق قاعدة من الخيوط المجدولة والمضفرة يضعونها فوق رأس خشبية.
وعندما تكتمل الباروكة، يتم تغطيتها بشمع العسل الدافئ وصمغ الـ“راتنج” (الذي يشبه الـ“جيل” المثبت الآن) بعد إسالته عند درجة حرارة .°63 – °6٠وعندما يبرد، يثبت الشعر على التصفيف المراد ليقاوم حرارة ورطوبة المناخ في مصر.هذه التقنية إتبعها صانع باروكات الأفلام السينمائية التاريخية الأشهر “فيليبو سالومون” في إطار مشروع “الزينة عند القدماء”. وكانت تلك التقنية في الصناعة والتثبيت – مع مهارة مصففي الشعر وصانعي الباروكات التاريخية الموهوبين – وراء إنتاج نماذج حديثة طبق الأصل للنماذج الأصلية القديمة.
ورغم أن عنصر خفة الوزن جعل تلك النماذج سهلة الإرتداء، إلا أن وصلات الشعر التي يتم تثبيتها بالشعر الطبيعي الآن اصبحت تمثل الخيار الأمثل والآمن لأصحاب المهن التي تتطلب الحركة العنيفة مثل لاعبي الأكروبات والراقصين.
أول وصلات للشعر
أسفرت أبحاث ودراسات – إستمرت خلال الثلاثين عاماً الماضية – عن اكتشاف واحدة من أقدم تصفيفات الشعر في مصر – يرجع تاريخها إلي عام 3٤٠٠ق.م – عثر عليها في مقبرة لإمرأة في منتصف العمر في منطقة الكوم الأحمر. حيث كشفت بقايا الشعر المتناثرة لشعر المرأة المتوفاة أن شعرها الطبيعي – الذي كان يصل طوله إلي كتفيها – قد تم تدعيمه بوصلات لإطالته. وقد أصبح هذا الأكتشاف أكثر أهمية عندما اكتشفنا أن تلك المرأة نفسها قد تم صبغ شعرها البنى الأشيب بالحناء، وهى الصبغة النباتية المستخدمة فى جميع مراحل العصر الفرعونى ومابعده من قبل الرجال والنساء والملوك والعوام على حد السواء.

شعر مستعار من مستويين خاص بالرجال.
صورة ملك المتحف البريطاني
الشعر والشعر المستعار الخاص بالملوك والنبلاء
كشفت بقايا الشعر المستعار التى عثر عليها فى جبانة “أبيدوس” عن طول شعر واضح فى تماثيل الملك زوسر ( ٢65٠ق.م) بانى الهرم المدرج. وفى حقبة لاحقة، كانت “أشايت” زوجة الملك منتوحتب (٢٠٠٠ ق.م) ترتدى باروكة من الجدائل الدقيقة الجميلة تصل الى كتفيها، بينما نرى احد افراد الحرس الملكى يعزز شعره بوصلات قصيرة، فيما يعتبر وسيلة لحماية رأسه قبل أن تعرف الدنيا القبعات والخوذات.
وبالإضافة للشعر المصفف بعناية الموجود على المومياوات، تم اكتشاف بعض الباروكات فى المقابر – وكانت توضع عادة فى صناديق – مثل تلك التى وجدت فى مقبرة توت عنخ آمون، جنباً إلى جنب مع الجدائل اللولبية المستعارة التى كان تصنع منها باروكته الخاصة. كما عثر فى مقبرة “يويا” – جد توت عنخ آمون – على صندوق به شعر مستعار.
أما أفضل شعر مستعار تم اكتشافه حتى الآن، فقد عثر عليه فى صندوق من البوص فى مقبرة فى قرية العمال فى دير المدينة. وهو عبارة عن باروكة كاملة من الشعر الطبيعى، بها جدائل بنية حلزونية مركبة فوق مقاطع من مئات الضفائر البنية الداكنة. هذا النمط من التصفيف يعد أفضل مثال على طريقة التصفيف المزدوج التى كان يفضلها كبار المسؤولين الذكور مثل “يويا”.
وبينما كان من المتوقع أن تكون الباروكات المصففة بطرق معقدة خاصة بالنساء، إلا أن الباروكات المعقدة كانت في واقع الأمر غالباً ما تخص الرجال، بينما كانت النساء تفضلن التصفيفات البسيطة التي تبدو أكثر طبيعية.
بعض النساء، مثل الأميرة “حنتمبت” ( ١5٠٠ق.م)، كانوا يدفنون معهن باروكات من أنماط مختلفة. ولكن أفضل باروكة عثر عليها هي باروكة كاملة من الشعر المستعار الطويل موضوعة في صندوق خاص في مقبرة “ميريت” وزوجها ( ١٤٠٠ق.م)، وبجانبها عديد من الضفائر المجعدة البنية اللون. ووجد كذلك مع “ميريت” صندوق صغير مدفون يحتوى على وصلات للشعر تستعمل لملء الشعر الطبيعي للملكات المسنات مثل “تتشيري” و“نفرتارى.”
وكانت “هتنفر” والدة “سنموت” – الذى بنى معبد “حتشبسوت” تستخدم ضفائر مماثلة. فكانت خصلات شعرها الفضية المجعدة ً موصولا بها خصلات من الشعر البني الداكن، ومصففة على شكل صفين كثيفين على جانبى رأسها. أما نهاية الضفائر فكانت تلف وتشبك من أسفل لعمل شكل منتفخ لنهاية الشعر، مشابه لتصفيفة شعر “حتحور” إلهة الجمال التي يرمز لها أيضا بلقب “صاحبة الشعر الجميل”. وكان المحبون للإلهة “حتحور” أحياناً يعلقون مجموعة ثلاثية من وصلات الشعر في مؤخرة رؤوسهم كنوع من الإشارة إلي حبهم وإخلاصهم لها.
كانت الباروكات أيضا بنداً رئيسياً في الملابس الدينية. وأفضل ما يمثلها هو مجموعة ضخمة للشعر المستعار خاصة بكهنة الأسرة ١٠٠٠( ٢١ق.م) كانت تستخدم في الإحتفاليات، عثر عليها في معبد الدير البحري. وهي موجودة في المتحف المصري بالقاهرة الآن. وتتكون من شعر طبيعي على شكل ضفائر أو خصلات حلزونية. وفى بعض الأحيان، إستخدم الصانع بعض ألياف النخيل لعمل حشو يعطي انطباعاً بكثافة الشعر المستعار، مع كونه في الوقت ذاته أرخص ثمناً. وأحد أفضل هذه الأمثلة هي باروكة مصنوعة من خيوط سوداء تشبه الشعر، مصففة في شكل خصلات حلزونية، وجدت على رأس الملكة “هنتاوي” (.ق.م١٠5٠).

تركيبة شعر من النوع المستدير الذى كان شهيراً فى القرن الثاني. من متحف بيتري بإنجلترا
تصوير جوان فليتشر
من القديم إلي الحديث
مع استمرار تطور الأنماط خلال الألفية الأولي قبل الميلاد، أصبح الشعر ً الطبيعي مفضلا بشكل أكبر. وبحلول عصر البطالمة ( 3٠-3٠5ق.م،) وجد أن بعض المصريات القدماء كن يغطين شعورهن كما هو الحال في اليونان والشرق الأدني. فكانت كليوباترا – والتي يرجح أنها كانت حمراء الشعر- تظهر فى معظم رسومها بشعر مصفف في شكل كعكة فى مؤخرة رأسها، وهو النمط المنتشر لتصفيف الشعر آنذاك. وكانت الكعكة تثبت بواسطة دبابيس للشعر وجدت أمثلة منها في المومياوات الرومانية، ووجدت في شعر بعض النساء المحنطات.
استمر تصنيع الشعر المستعار في مصر خلال العصر البطلمي. وعلى الرغم من أن أعقد الباروكات كانت مصنوعة بالكامل من ألياف النخيل أوالعشب، كان الشعر الطبيعي لا يزال يستخدم لصناعة قطعة جامدة من للشعر المستعار تشبه الهلال وتسمي “أوربيس”، وكانت ترتدى في أعلى الجبهة في مقدمة الرأس. ويكمن رؤية الـ”أوربيس” بكثرة في التماثيل الموجودة في مختلف أنحاء الأمبراطورية الرومانية. أما المثال الوحيد المعروف لها في مصر، فعثر عليه عالم المصريات “بيتري” في مدينة “كوم غراب” بالفيوم.

غطاء رأس من الصوف (من مقبرة فى هوارة) من القرن الثالث. بمتحف بيتري بإنجلترا
تصوير جوان فليتشر
في نهاية العصر الروماني، عندما أصبحت مصر دولة قبطية مسيحية، تغيرت تصفيفات الشعر استجابة لتعاليم القديس “بولس”، الذي أوصي بضرورة أن يقوم الرجل بتقصير شعورهم. في حين كان في ً إطالة المرأة لشعرها دليلأ على بهائها، ويفضل تغطيته. وكانت أشهر طرق تغطية الشعر للنساء في مصر القبطية هي لبس القبعات والشباك، أو تغطية الشعر باستخدام قطعة من النسيج المطاطي. وقد عثر على نموذج لقطعة من النسيج المطاطي كانت تغطي رأس صاحبة مقبرة في “هراوة”، وتم سحب قطعة النسيج لتغطي جبهة وعيني المومياء أيضاً.
وبطبيعة الحال، إتجه الرجال في مصر مع الفتح العربي إلي تقصير شعورهم، فى حين استخدمت النساء الأوشحة لتغطية شعورهن ووجوههن فى بعض الأحيان. ويرجع تاريخ البرقع الذى تم اكتشافه في مدينة “القصير” القديمة – على ساحل البحر الأحمر – إلي عام ١٢5٠ق.م.
وفي يومنا هذا، لا يزال الشعر وأغطية الرأس يعكسان الكثير عن شخصية أصاحبها ومستواهم الإجتماعى وانتماءاتهم الدينية… تماماً كما كان الحال عند المصريين القدماء.
الأكثر قراءة

تميزت الحلي المصرية برموزها المتعددة التى عاشت آلالف السنين، فبإنصهار الرموز الخاصة بالعصور اآلفلة مع الرموز المعبرة عن المعتقدات الناشئة، تكونت سلسلة طويلة متواصلة تمثل تراث وثقافة شعب عريق.

الاستعانة بخبرات شركة ”فاكتوم آرتي“ في التقنيات الحديثة لتنفيذ نسخ طبق الأصل من مقابر البر الغربي

يتم تصوير الفراعنة دائماً كقادة عظام ومحاربين لا يهابون الموت، ودائمى التعبد للألهة ، لكن الحقيقة قد تكون ابعد كثيراً عما عرفه الناس واعتقدوه. الباحث جارى شو يبحر بنا فى الجانب الإنسانى لفرعون مصر،ويرسم لنا صورة ليوم عادى فى حياة احد فراعنة الدولة الحديثة

هل تعلم ان يوماً ما كانت الذبابة تعد رمزاً للشجاعة والمثابرة؟ حتى ان المصرى القديم صنع منها قلادة ونيشاناً؟ او ان مسحوق المومياء كان مسكناً كالأسبرين ووصفة سحرية استخدمها الأوروبيون الأثرياء لعلاج العديد من الأمراض والعلل؟

المقابر الفرعونية، بما احتوته من رسوم ونقوش، تعرفنا بزمان سادت فيه ثقافة وحضارة كانت تقدس الترابط العائلى وحسن تربية الأبناء. فمن نصائح الحكيم بتاح حتب لإبنه المقدم على الزواج، الى شكل البيت العائلى المصرى، يمكننا التعرف على الكثير من ملامح الحياة العائلية فى مصر الفرعونية.