بقلم شهيرة محرز
تصوير فارس حسنين

تميزت الحلي المصرية برموزها المتعددة التى عاشت آلالف السنين، فبإنصهار الرموز الخاصة بالعصور اآلفلة مع الرموز المعبرة عن المعتقدات الناشئة، تكونت سلسلة طويلة متواصلة تمثل تراث وثقافة شعب عريق.

عرف الإنسان صناعة الحلي وأدوات الزينة منذ فجر التاريخ. وكان القدماء يعتقدون أن ارتداء الحلي يقيهم من تقلبات الطبيعة والأمراض والأرواح الشريرة ويرضي الآلهة. غير أن الحلي لم تتوقف عند كونها مجرد تعبير عن الخوف، وإنما كانت في ذات الوقت دلالة على التميز وأداة لجذب الانتباه وإثارة إعجاب الآخرين، إستخدمها علية القوم والعوام على حد السواء.

وعبر العصور، تميزت الحلي المصرية عن مثيلاتها من الحضارات الأخرى بخاصيتين هامتين: الأولي هي الاستمرارية عبر آلاف السنين، والثانية هي التوفيق بين المعتقدات عبر العصور، حيث تنصهر الرموز الخاصة بالعصور الآفلة مع الرموز المعبرة عن المعتقدات الناشئة فى بوتقة واحدة تجمعهما معاً. ويعد هذا التناقض الظاهري بين استمرارية رموز الماضى ودمج رموز لعصور وثقافات مختافة معاً إنعكاساً جلياً لإزدواجية متجذرة فى قلب المعتقدات المصرية القديمة، مبنية على إيمان عميق بضرورة تعايش المتضادات معاً بسلام لتحقيق الإنسجام المنشود.

وقد كانت هذه الازدواجية – المتمثلة في قدرة مصر على الحفاظ على موروثها عبر العصور وفي الوقت ذاته استيعاب العادات الجديدة ودمجها في المجتمع – عنصراً مؤسساً في دمج الوافدين الجدد إلي مصر مع سكانها الأصليين من دون أية توترات الاجتماعية. وهكذا، حتي نهاية القرن العشرين، كان مشهد الإبن الصغير للشيخ المسلم يقبل يد “أبونا” كاهن الكنيسة المجاورة – دون أي تردد – من المشاهد المألوفة.

وربما تستقي هذه الازدواجية أصولها من البيئة الطبيعية للدولة المصرية: فمناخ مصر معتدل ومستقر يمكن التنبؤ به – وإلي اليوم لا يزال الفلاحون في أنحاء مصر يزرعون أرضهم وفقاً للتقويم الفرعوني – مما خلق مجتمعاً تقليدياً متمسكاَ بآراء وخبرات الأجداد والقدماء. إلا أن طبيعة المصريين المتفائلة وثقتهم في قدرتهم على تطويع بيئتهم المحيطة دفعتهم في الوقت ذاته إلي التخلي عن بعض الموروثات الجامدة والإنفتاح على ما يحمله الوافدون الجدد إلى أراضيهم من ثقافات ومعتقدات جديدة، دون أن يتخلوا عن موروثهم الثقافي العريق والمتجذر. وهو ما سمح للحضارة المصرية بالخلود والاستمرار بشكل استثنائي غير مألوف على مدار التاريخ.

فبينما توحدت الدولة المصرية – من ساحل البحر المتوسط شمالاً إلي النوبة جنوباً مروراً بالقري المصفوفة على ضفتي نهر النيل والصحارى الشرقية والغربية – عبر الأزمان المختلفة حول رموز ومعتقدات واحدة، إنصهرت المعتقدات الوافدة قرناً بعد قرن في بوتقة الثقافة المصرية: فنجد الوصايا العشر لموسي تتماهى مع “الاعتراف الأخير” عند الفراعنة، ومشهد إرضاع العذراء مريم للسيد المسيح يتطابق مع صورة إيزيس وهي ترضع  حورس، كما أن التمائم الفضية التي ترتديها الفلاحات ونساء الواحات في القرن العشرين ليست إلا امتداداً لحلي أميرات الأسرة الثامنة عشر الفرعونية.

رموز عابرة للأزمان

وإذا دققنا في الكيفية التي انعكست بها خاصية الاستمرارية عبر العصور في صناعة الحلي، سنجد أن الرموز المستعملة في الحلي يمكن أرجاعها إلي عصور ما قبل التاريخ، وإن كانت تظهر بصورة تختلف اختلافاً جذرياً عن النماذج التي عرفها الأسلاف.

ويتضح هذا مثلاً في الأعقاد المصنوعة من أسنان الحيوانات، والتي ظلت حاضرة في حلي الفلاحات ونساء الواحات حتي نهاية القرن العشرين، والتي ترجع دلالتها الأصلية إلى تفوق الإنسان على الحيوانات الكاسرة. ومع تغير الظروف الطبيعية، فقد الطلسم الأصلي للأسنان معناه تدريجياً، ليتحول عبر العصور إلى قطعة حلي لمجرد التزين وجلب حسن الطالع ليس أكثر.

للأسف الشديد، فإن هذا الإرث الثقافي الثري مهدد بالضياع بفعل السعي لتقليد الغرب والعولمة، اللذين يقوداننا ببطئ إلى أن نكون مجرد جزء في عالم بالغ النمطية، محكوم برأس المال والعلامات التجارية العابرة للقارات ومصممي المجوهرات المشاهير، وتحميه ترسانة من المحامين وحماة الملكية الفكرية.

وكذلك نجد أمثلة أخرى لهذه الخاصية فى رمز الثدى الذى يظهر فى الأساور النوبية بما يرمز للخصوبة، ورمزي الهلال والنجمة المتكررين فى جميع ربوع مصر، حيث ارتبطت النجمة بالديانة اليهودية فى وقت سابق، ثم ارتبط الهلال بالإسلام فيما بعد.

أما “الإدريم” – وهو قرص كبير مصنوع من الفضة إرتدته نساء واحة سيوه حتى أواخر القرن العشرين – فيمكن إرجاع أصله إلى عبادة قرص الشمس (الإله “آمون رع”) عند الفراعنة. وهو مايعد مفارقة تاريخية مدهشة لإنتشاره فى مجتمع يدين بالإسلام ويلتزم بتعاليمه مثل واحة سيوه. وتظل هذه الخاصية حاضرة حتى يومنا هذا فى قطع الحلي المصنوعة على شكل علب صغيرة كانت تستخدم قديماً في حفظ الأحجبة، وإن كانت العلب خاوية في يومنا هذا.

أزمان صاهرة للرموز

في بلد يقع في ملتقي الشرقي والعزب، إلتقت فيه أعراق متنوعة وتعاقبت عليه الحضارات منذ القدم، يتوقع المرئ أن تختفي الرموز الخاصة بالحضارات المضمحلة لتحل محلها رموز جديدة نظراً لسيادة الثقافة الجديدة. إلا أن ما يثير الدهشة فى مصر لهو انصهار الكثير من الرموز التى عفا عليها الزمن مع رموز معبرة عن معتقدات جديدة. ويتضح ذلك مثلاً فى رمز مثل عين حورس الذى تحول إلى العين الزرقاء المعروفة حالياً للوقاية من الحسد لدى المسلمين والمسيحيين على حد السواء، وكذلك الخرز الملون الذي يستخدم في تطريز المنسوجات بغرض الحماية من الشرور، والذي تعود نشأته إلى العصر الفرعونى. وكذلك انصهر نقش الصلبان في الزخارف الاسلامية للحلى الفضية التى ترتديها النساء المسلمات، ودخلت آيات وأذكار الكتب المقدسة فى نسيج طقوس السحر الوثنية لتشكل جلسات طرد الجن والأرواح الشريرة كما نعرفها اليوم.

للأسف الشديد، فإن هذا الإرث الثقافي الثري مهدد بالضياع بفعل السعي لتقليد الغرب والعولمة، اللذين يقوداننا ببطئ إلى أن نكون مجرد جزء في عالم بالغ النمطية، محكوم برأس المال والعلامات التجارية العابرة للقارات ومصممي المجوهرات المشاهير، وتحميه ترسانة من المحامين وحماة الملكية الفكرية. عالم لا يعرف تلاقي الأفكار واندماج الثقافات، ينظر للتعويذات والتمائم التي أبدعها التراث البشري – أملاً في حماية الضعفاء وشفاء المرضى ومنح الشجاعة والقوة – كقطع  أثرية عفا عليها الزمن وانتهى عصرها.

نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ٧ ، ٢٠١٥