عندما يلتقى اللون الأخضر بصحراء ابو صير

تمثل جبانة الأهرامات التي تمتد من شمال الجيزة إلى أسفل سقارة حافة الصحراء الكبرى. ويقع عند هذه الحافة شريط ضيق المساحة ولكن خصب التربة يمتد بعرض 10 كم عرضا. مثلما فعل أسلافهم، فقد سكن المصريون المعاصرون الوادي الخصب في قرى رعوية صغيرة تطل على هضبة الصحراء القديمة.

منذ الأربعينيات من القرن العشرين، بدأت البرجوازية العمرانية تهرب من الضوضاء القاهرية نحو منطقة سقارة بحثا عن السكينة. وكان لدى هؤلاء السكان الجدد الرغبة في بناء منازل العطلة الجديدة في هذا الشريط الضيق حيث يلتقي الأصفر الجاف بلون الصحراء بالأخضر الناعم والمزدهر بلون المزارع. وفي تصميم هذه المنازل حاولوا البحث عن لغة تشكيلية بسيطة وهادئة بعيدة عن التصميمات المعمارية المنتشرة في القاهرة انذاك كالنيو كلاسيكال والارت ديكو. وفي ذلك الوقت ، قام أساتذة العمارة أمثال رمسيس ويصا واصف (في مجمع الحرانية 1952) وحسن فتحي (في القرنة 1949) ، وتبعهم تلاميذهم  بتجربة  أسلوب معماري جديد يحمل لغة تشكيلية تستمد مفرداتها من عناصرالعمارة الشعبية المستخدمة في بيوت القرى المصرية في شمال وجنوب مصر. وفي منطقة سقارة تلاقى حلم صاحب المنزل بتجربة المعماري وقدما للأسلوب الجديد المكان لكي ينمو ويزدهر على مدار السنوات اللاحقة ليصبح الأسلوب الجديد للعمارة الشعبية المصرية.

قاعة الإستقبال الرئيسة: خلال ساعات النهار تبعث “الهالة” المكونة من الطوب السيوي المصنوع من الملح إضاءة حانية و دافئة تستمدها من ضوء الشمس بالنهار وتستمر ليلا من خلال إضاءة خارجية صناعية .

وتعتبر أبو صير أو بيت أوزيرجزء من هصبة الصحراء حيث توجد مجموعة من هذه بيوت العطلة المطللة على أطلال أهرامات أبو صير.فى محيط هذه الملاذات الفارهة، و أن كان بتعبير مختلف كلياً، يقع منزل المعمارى طارق لبيب ويحمل اسم “بيت أبوصير ٢”.

 بعد أن أنهى دراسته (بكالوريوس الهندسة المعمارية من كلية الفنون الجميلة في القاهرة 1979) و (دكتوراة في تصميم مباني متوائمة مع اناخ من جامعة لوس أنجلس 1996)،  تعددت  تخصصات طارق لبيب العملية متعدد حيث عمل كأكاديمي وكمتخصص فى العلوم المعمارية وأخيرا كمعماري ممارس في الولايات المتحدة وفرنسا ومصر. يرى طارق لبيب أن دراساته العلمية في بناء مبان ذات أداء حرارى جيد قد ساهمت في إتخاذ قرارات مهمة في تصميماته. وبعد سنوات قليلة من الإقامة والعمل المعماري في قلب القاهرة، انتقل لبيب في 2003 بإقامته الدائمة وعملة إلى منزله الجديد أو المشروع المزدوج الغرض في أبي صير.

“برغم أن عملائي في “بيت أبو صير ١” كانوا مرحبين بتجربة أشكال معمارية جديدة ،لكني لا أعتقد أنهم كانوا قد يذهبون معى لهذا المدى البعيد الذي اتبعته هنا”

الشرفة بالدور الأعلى وبها نباتات منظمة على الطراز الفرعوني

“بيت أبو صير ٢” كما يحب أن يطلق عليه مالك ومعماري المشروع ، له أوجه تميز متعددة تلاحظ بداية من الاقتراب من المنزل. عند العبور من إحدى بوابات هذا المجتمع الهادىء والأنيق حيث يقع المنزل، يمر الزائر عبر كثير من المنازل المسورة داخل السور الاكبر للمجتمع السكنى، 

وبخلاف كل المنازل التي تسبقه على الطريق القصير نوعا ما، يقع بيت طارق لبيب بدون أسوار منبسط ، حر،  و منفتح على الطبيعة من حوله. 

يعتبر الانفتاح هو النسق الأساسي المثير للإعجاب في هذا المنزل، بالأخص فى المنطقة السكنية التي يقع بها. المنزل منفتح على المساحات الخضراء والصحراء المحيطة بحديقة أمامية وحديقة خلفية. ويستغل الفناء الأمامي موقع المنزل الذي يقع في نهاية منتجع سكني صغير بينما تستغل الحديقة الخلفية إطلالة المنزل على أهرامات أبوصير. وقد تم استخدام تلك المساحات الأمامية والخلفية كمنطقة مشاهدة مفتوحة توضح أبعاد هذه العمارة النحتية و الوظيفية فى الآن ذاته.

 أحد ملامح حرية التعبير فى المبني و التى يلحظها الزائر مباشرة وهي الإختلاط الانسيابي للأشكال.فنجد كتل رمادية  ذات أشكال هندسية  صريحة وحادة تبرز من كتل بيضاء و أخرى ذات ألوان أرضية فى أشكال منحنية و ناعمة.

بالإضافة إلى ذلك، استخدم المعماري لوحة متنوعة جدا من المواد التى هي عادة لا تجتمع معا في مشروع واحد. فقد قام المعماري باستخدام تشطيبات الجبس الشعبي بالأبيض والألوان الأرضية جنبا إلى جنب مع وحدات خرسانية صناعية الطابع. وأيضا قام باستخجام عناصر معدنية مع فتحات خشبية من الخشب ال Marenti الأفريفى كما استخدم الطوب الأحمر مرة مغطى بطبقة بيضاء عازلة و خفيفة و شفافة ومرة أخرى بدون تشطيب و ذلك بجانب طوب ملحى يخترقه الضوء، من سيوة.

هذا الانطباع الأولي عن هذا المبنى الحر يظهر بوضوح عند المرور بمدخل المنزل. فنجد في المدخل سقيفه من اقبيه متقاطعة  تقوم بإحياء القوس القبطي التقليدي و تشكل المجاز العربي للمنزل الذي يؤدي إلى باب المدخل.من السطح الداخلى للعقد الأول تتدلى قطعه جميله من قماش الخيامية أحاديه اللون تشكل حياكتها بيت من شعر أبو فراس الحمداني محييا زوار المنزل: و من مدهبى حب الديار لأهلها.

حجرة النوم الرئيسية

 يفتح الباب على بهو صغيرمرتفع و يطل على واحد من أهم الفراغات المعمارية للمنزل. وهنا يمتد قبو بعرض ستة أمتار و بطول تسعة أمتار و يبرز منه فراغ مزجج بعمق بسيط و مطل على أهرامات أبو صير. و يمثل هذا الجزء الأولي المبهر القلب النابض للمنزل وقاعة الترفيه  الخاصة به كما يحب أن يطلق عليها لبيب. خلال ساعات النهار يبعث الطوب المصنوع من الملح المعرض لضوء الشمس على الفراغ إضاءة حانية و دافئة تستمر ليلا من خلال إضاءة خارجية صناعية . وتعتبرمساحة القاعة مسطح مفتوح حيث يربط حيز المدفأة قاعة المعيشة بصالة الطعام والمطبخ المفتوح و من ثم  بالإمتداد الخلفي لهم. تحف القاعة وملحقها حديقة أفقية ذات طابع مصري قديم تؤدي إلى التل الذي يوجد به أهرامات أبو صير من ناحية ومن الناحية الأخرى إلى الفناء الداخلي للمنزل. هذه الساحة هو المركز الذي تدور حوله جميع أنشطة واستخدامات المنزل.

وعند الخروج من القاعة إلى الفناء، يقابل الزائر السلم الرئيسي و الموسيقى للمنزل من خاتمي الخرسانة و ألواح الحديد الذي يصعد إلى دور الميزانين حيث شرفة ممتدة لمساحة 100 متر مربع تحوى الآن مكتب “طارق لبيب معماريون”. هذه المساحة العملية ذات السقف الخرسانى الأفقىتكفي لاستخدام ستةمعماريين، و تحوى مساحة للتخزين و مطبخ صغير وحمام.

هذه الحالة العملية تم كسرها بوجود تلك الشرفة الغير مسورة المفتوحة على المنظر الطبيعى للصحراء ومحاطة بناموسية تقليدية و التي تمثل الإمتداد المفتوح لحيز المكتب. هذه البلاغة الخشبية لا يحفها إلا مجموعة من نباتات الصبار زاهية الألوان تعطى المرسم المعماري بعد غير رسمى بجلستها الأرضية و تعطي مستخدمها حيز منعزل للتأمل. فراغ مفتوح و مشمس و جيد التهوية يحتوى على فراغات التخزين و الغسيل الخاصة بالمنزل، يفصل بين المرسم  و جناح لمبيت الضيوف. هذا المستوى العملى من المنزل يمكن الولوج اليه بسهولة من الخارج عبر مدخل آخر ثانوى مارا بفناء المنزل الداخلى. و عند استكمال السلم الموسيقى فى اتجاه الطابق العلوي يصل الصاعد لجناح النوم الرئيسي بالمنزل.

السلم الرئيسي للمنزل من خاتمي الخرسانة والواح الحديد الذي يصعد الى دور الميزانين حيث الشرفة الممتدة لمساحة 100 متر مربع والتي تحوى على مكتب.

يصل السلم إلى مساحة 55 متر مربع تتوسطها مساحة المعيشة التي يوجد بهاالتلفازومطبخ صغير و تتوسط حجرتي النوم. وهناك برجان يحتويان على حجرة النوم الرئيسية وحجرة الضيوف وكل منهما تحتوي على خزانات للملابس ودش وحمام وكل منهما تطل على المنظر الرئيسي سواء من خلال النوافذ أو من خلال شرفات صغيرة يطلق عليها طارق لبيب شرفات روميو وجولييت. وبعد استخدام السطح الخرسانى الأفقية تسقيف المطبخ فى الدور الأرضي و دور الميزانية بأكمله ، يظهر مرة أخرى القبو القبطي المكون من الطوب الأحمر في هذا الجزء من .المنزل الخاص بالاسترخاء المستخدم من قبل لتغطية قاعة الترفيه.

ومن أجل ضمان الراحة  الحرارية، قام المعماري باستخدام خبرته النظرية والعملية لتوفير الظروف المناخية المثلى للمنزل. معماريا، قام لبيب بتصميم الفناء بحيث يستقبل الرياح الشمالية لكي يقوم نسيمه البارد بتبريد حوائط المبنى مع الحفاظ على اتجاه المبنى لكي تطل القاعة الرئيسية على أهرام أبو صير. وأيضا كل الكتل المعمارية المنفصلة المتصلة و ذات الطابع النحتى التي هي جزء من عمارة المبنى تم تشكيلها في غلاف مزدوج.

الفراغات البينية  تحتوى على طبقة عازلة من  البولي ريتان تبطن الغلاف الداخلى و مسارات من الصاج و ماكينات للتهوية السلبية و الإيجابية لإمداد المنزل بالهواء البارد و سحب الساخن منه و طرده خارج المنزل.

إحصائيا ، فالحلول المناخية المستخدمة رفعت من مستوى الأداء الحراري للمبنى وقامت بتوفير 73 % من التهوية غير المباشرة خلال الصيف. أما في الشتاء فيقوم المبنى ذو الغلاف المزدوج بكتلته الحرارية الكبيرة بحبس كمية الحرارة اللازمة للتدفئة فى ليالى الشتاء الباردة.  

وخلال فصول الخريف والربيع القصيرة ، فإن التهوية غير المباشرة تكون فعالة خلال 50% من الوقت.بالإضافة إلى أن الجدران البيضاء والملونة قد تم استخدامها كعاكسة للحرارة. أما النوافذ التي تفتح على المساحات المفتوحة فقد تم استخدامها لتجميع تيارات الهواء. و كما لا يستطيع الناظر للمنزل من الخارج أن يرى أي من المعالجات الحرارية، لا يلحظ مستخدم المنزل من الداخل أي معالجة معمارية أو حرارية تقطع انسيابية وتلقائية التصميم الداخلى. 

“أنا لم أقم بتصميم المساحات الداخلية ولكنها كانت نتيجة للتصميم المعماري”

يقول لبيب أنه لم يقم ببذل جهد كبير في تصميم المساحات الجاخلية للمنزل ولكنها وجدت بهذا الشكل كنتيجة طبيعية للتصميم المعماري للمبنى، لا سيما عن طريق التناغم مع الغلاف المعماري ولكي يتناسب مع المجموعة الشخصية للمعماري من تحف وأثاث، لذلك تكون النتيجة هي تصميم داخلي متفرد الروح.

فالمساحات الداخلية منفتحة على بعضها وتناسب الاستخدام اليومي للمعيشة بالمنزل. تنوع التشطيبات و الخامات و حرية استخدامها في المساحات الخارجية يمتد ويستمر في المساحات الداخلية.

وتضم المجموعة قطع أثاث من أوروبا وتركيا وسوريا. ونجد أعلام الصوفية المصنوعة بطراز الخيامية بجانب لوحة زيتية لسيدة رسمته لآل النصف الأول من ١٩٠٠ بأسلوب عصر النهضة و كما نجد فى قلب قاعة الترفيه بالمنزل قطعة كليم متحفية دافئة الألوان تنساب في تضاد يبرزها فوق أرضية خرسانية ايبوكسية رمادية اللون، صناعية الطابع . مرة أخرى من خلال التصميم الداخلى للمنزل يؤكد المعماري المصمم على حرية فكره المعماري المفتوح على الجمع بين الأنساق المعمارية المختلفة من عدة طرز معمارية قلما تلتقي و رخامات متنوعة كذلك. 

خلال تصميم وبناء منزل أبو صير 2 قام طارق لبيب باستخدام لغة ومفردات متنوعة تجمع كل خبرته العلمية والعملية المتراكمة بحرية مطلقة. فقد استخدم تشكيلات مساحية ومعمارية.

.كما أنه قام بإدخال تشكيلات جديدة اسكملت رؤيته للمنزل ولم يجد أي موانع للتحرك بحرية بين أساليب معمارية وماد تعبيرية مختلفة.فعمارة المنزل تتناغم جدا مع موقعه حيث يلتقي الأخضر بالأصفر. وأخيرا يعتبر لبيب هذا المنتج المعماري أنه واحد من سلسلة مشروعات أخرى يحاول تنفيذها من أجل استخدام والتعريف بأسلوب مابعد العمارة الشعبية في مصر. وعند مغادرة المنزل يقرأ الزائر بيت شعري يعبر عن ر ؤية المعماري للغته المعمارية: “وللناس فيما يعشقون مذاهب..