على مر السنين، تجلى دق الوشم عند المصريين في أشكال كثيرة ومتنوعة: من أشكال هندسية تُدق بغرض الزينة أوالتداوي، إلى أشكال رمزية ذات مدلول ديني، وأخرى لوحوش أو شخوص رجالية أو نسائية. تلك الأشكال - باختلاف أنواعها والغرض من دقها - لافتة للنظر وجديرة بالتحليل.

صوره لدقاق الوشم فى بدايات القرن العشرين

مقدمه من أ.رجب حسن

على مر السنين، تجلى دق الوشم عند المصريين في أشكال كثيرة ومتنوعة: من أشكال هندسية تُدق بغرض الزينة أو التداوي، إلى أشكال رمزية ذات مدلول ديني، وأخرى لوحوش أو شخوص رجالية أو نسائية. تلك الأشكال – باختلاف أنواعها والغرض من دقها – لافتة للنظر وجديرة بالتحليل. ​اليوم – وبفضل مجموعة من تصميمات الوشم المرسومة على الزجاج، محفوظة ضمن مقتنيات الجمعية الجغرافية بالقاهرة ومتحف (كي برانلي) في باريس من ثلاثينات القرن الماضي – يمكن عمل حصر بالأشكال المختلفة لهذا الفن الفريد.

للوشم رسوم معقدة لا يمكن فهم معانيها إلا بالرجوع إلى مصادرها المتنوعة من نقوش وزخارف تنبع بدورها من القصص الشعبي والخرافات والأمثال وسير القديسين وغيرها. ولذلك يعد الإلمام بالسحر والمعتقدات الدينية الرئيسية في المجتمع من الأدوات الهامة لتحليل عالم الوشم، ذلك العالم المثير للخيال والملئ بالألوان والأشكال المتعددة من طيور وأسماك وأسود وأفاع وصلبان ومساجد وفرسان ونساء يلوحن بالسيوف، وغيرها.

بارافان به الواح زجاجيه تعرض الأشكال المختلفه من الوشم ،من نفس فترة الصورة السابقة، من مقتنيات المتحف الإثنوغرافي بالقاهره

من التزين إلى إبعاد الأرواح الشريرة:

​في كتابه الشهير “عادات وتقاليد المصريين المعاصرين عام 1836″، يصور “إدوارد لين” إمرأة دقت وشماً بين نهديها يمتد إلى الأسفل بطول ذراع، ووشماً آخر فوق حاجبيها وذقنها ويديها. وخلص لين إلى أن هذا النوع من الوشم كان بغرض الزينة والإثارة.

​وأبرز عدة كتاب آخرين في أعمالهم عادة دق الوشم لأغراض علاجية: للتخلص من الصداع والآم العظام والمفاصل وأوجاع الأسنان وأمراض المعدة والأمراض الجلدية والالتهابات، وغيرها. أما الأشكال الهندسية للوشم، فالغرض منها غالباً وقائي وحمائي. ويتضح هذا من خلال ما ذكرته “بلا كمان” في كتابها “فلاحو جنوب مصر” الصادر عام 1927، عن اعتقاد المصريين بأن الوشم يقي الأطفال من شرور الأرواح التحتية لأمهاتهم، والتي تسعى لخطف الأطفال من أمهاتهم.

​وفي الغرب، جرت العادة كذلك في الماضي أن يقوم الناس بدق وشم سحري للامهات اللاتي يموت صغارهن عقب الولادة، ويكون على هيئة صغارها الباقين على قيد الحياة.

صلبان وأهلة:

ومن الرسوم المستوحاة من الديانة المسيحية، نجد وشماً لشخصيات السيد المسيح والقديس مارجرجس والقديس ميخائيل. ويعتبر الصليب المتساوي الأذرع المزين بالزهور والأقواس من أكثر أشكال الوشم شعبية وانتشاراً. ومنذ القرن الثامن الميلادي، جرت العادة في مصرعلى ان يدق المسيحيون في طفولتهم وشماً لصليب على المعصم أو بين أصبعي السبابة والإبهام تأكيداً لعقيدتهم المسيحية يوم الحساب وضماناً لدفنهم عند الموت في مقابر المسيحيين. أما الوشم الديني عند مسلمي مصر فيتنوع بين أشكال الهلال والمسجد وجمل المحمل يقود قافلة الحجيج إلى مكة، وذلك للدلالة على أن صاحب الوشم قد أدى فريضة الحج أو زار المدينة المنورة أو ضريح أحد أولياء الله الصالحين.

حيوانات ووحوش:

أولهم طائر الفكر:

​يعرف وشم العصفوربإسم “طائر الفكر”، ويدق عادة بين العين والصدغ، كعلاج للصداع وانشغال البال. ويربط الموروث الشعبي عادة بين الطائر والرأس والتفكير، فيقال مثلاً على الشخص الساكن لاستغراقه في التفكير “كأن على رأسه الطير”، والعبارة العامية “طير برج من نافوخي” – والمقصود بالبرج هنا هو أبراج الحمام ـ تدل على الغضب الشديد. أما تعبير “داقق عصافير” فيقصد به الغباء والسذاجة، وقد دمغه سكان المدن في إشارة لأن سكان القري – مهما تمدنوا – فأن وشم العصافير لا يذهب أبداً، ويظلون على سذاجتهم.

ثانيهم السمك:

​يعتبر وشم الأسماك رمزاً للخصوبة والغذاء. بينما يرتبط لدى المسيحيين بالسيد المسيح.حيث تعني كلمة الأسماك باليونانية القديمة “المسيح”، الذي يعتبر صائد النفوس ومخلصها. ويدق الوشم على شكل سمكة للعلاج والحماية. أما وشم عروس البحر فيرمز للخصوبة، وهو في الأصل عبارة عن رسم متداخل لانثى تخرج من فم سمكة.

ثالثهم الأسد:

​يتم تصوير الأسود في الوشم إما مدججة بالسلاح، أومروضة ومقيدة بالسلاسل وتقودها إمرأة تحمل سلاحاً، أو مقيدة إلى نخلة، أو يمتطيها رجل. أما وشم الأسد يصارع الأفعى فيرمز إلى انتصار الخير على الشر. ويحمل الأسد معان متناقضة: فهو يرمز للشجاعة والشهامة والقوة، إلا انه يرمز ايضاً للشراسة والهمجية. ويعبر الأسد كذلك عن سمات المجاهدين والمؤمنين مثل شخصية عليَ – رضي الله عنه – أو القديس مرقص الذي أدخل الديانة المسيحية إلى مصر والملقب بـ”أسد الله”، بالإضافة إلى العديد من القديسين الذين يتحولون إلى أسود كدليل على سيطرتهم على الطبيعة والشهوات.

رابعهم الثعبان:

​بعيداً عن الرمزية المعروفة للثعبان كرمز للعضو الذكري، فإن الثعبان يعتبر رمزاً بالغ التعقيد: فهو عادة يرمز للعدو أو المعتدي في الأمثال الشعبية وتفسير الأحلام،  غير أن بعض الأمثال الشعبية الأخرى تقدمه في صور حسنة، كالمثل القائل “إذا حبتك حيّة اتلفع بيها”، أو المثل القائل “جنب العقرب ما تقرب… وجنب التعبان أفرش ونام”.

ويرى الجاحظ أن الثعبان – مثله مثل سرطان البحر والسمك – من أكثر مخلوقات الله احتراماً. ويقال أنه مخلوق مقدس وذي قوة مذهلة. وربما تكون تلك القوة هي المعنى المقصود من وشم الثعبان.

خامسهم الديك:

​تعرف الديوك بالفحولة. ولذا يوصف الرجل الشجاع المسيطر والفخور بالديك. والديك رمز شمسي، خاصة وأنه يصيح إيذاناً بطلوع الشمس كل صباح، ومن هنا أتى وصفه بـ “ذو العين الصافية”. وترتبط الديوك كذلك بالعالم السماوي، ويُعتقد أن صياحها في الفجر يأتي نتيجة لرؤيتها للملائكة، بينما بأتي نهيق الحمير مثلاً نتيجة رؤيتها للشياطين. وتقول أساطير الخلق كذلك بأن الديوك كلها تردد صياح ديك سماوي عملاق يعيش في الجنة أسفل عرش الله ويؤذن في مواقيت الصلاة.

سادسهم العنزة:

​ترمز العنزة إلى الشمس. ومثلها مثل الأسد والديك، تعتبر العنزة رمزاً لقوة يمكن ترويضها بربطها في نخلة تحت راية الإسلام. والعنزة – بلبنها الوفير ووبرها وجلدها – تُعد رمزاً للطبيعة في عطائها وحيويتها ورعونتها وعدم القدرة على التنبؤ بتقلباتها. والعنزة في الثقافة المسيحية ترتبط بحدة البصر، ربما لأنها تصعد فوق الجبال العالية.

تعتبر الماعز أيضاً مصدراً شائعاً للثروة الحيوانية، يتصف رعاتها عادة بتواضع الحال، بينما يتميز مربي الإبل مثلاً بوضع مرموق نسبياً. وأخيراً، يعتبر الناس العنزة حيواناً وقحاً، كون مؤخراتها مكشوفة، على عكس الخراف.

الذكر: من عنترة بن شداد إلى لاعب الأكروبات

​تتضمن أشكال الوشم شخصيات ذكرية، منها المرتبط بالمهن المختلفة – كسائق الكارو أوبائع العرقسوس أوالشرطي. وهذه عادة ما تدقها النساء أشارة إلى المحبوب. أما وشم لاعب الاكروبات فغالباً ما يشير إلى الشخص المراوغ الذي لا مبدأ له. وهناك وشم آخر رائج لرجل يصارع شرطي في رمز لتحدي النظام.

وفي الواقع، فإن الوشم كثيراً ما إرتبط بالجريمة. وقد إهتم الطبيب الفرنسي “الكسندر لاكساني” (1843-1924) – المتخصص في علم النفس الجنائي – بدراسة الوشم بين المساجين. وكذلك اقترح المستشار “كالوياني” بمحكمة القاهرة العليا في بدايات القرن دراسة وشم المجرمين في مصر، معتبراً إياه علامة على الانحراف والدعارة.

​أما الوشم الأكثر انتشاراً بين الرجال فهو رسم على شكل فارس يمتطى جواداً أو أسداً. وعادة ما يكون الفارس ذي شارب كثيف ومرتدياً خوذة يعلوها هلال، مما قد يُعتبر تجسيداً لعنترة بن شداد أو الزناتي خليفة – وهي شخصيات من التراث الشعبي العربي تمثل قيم الشجاعة والمروءة والكرم وحماية الضعفاء، وكلها صفات يتمنى كل رجل أن يمتلكها.

الأنثي: محبوبة وأم ومحظية

​غالباً ما يمثل وشم المرأة الإغواء أوالشهوة، وفيه تُرسم المرأة بأبهى صورة من الملابس والحلَي وتصفيف الشعر. ويدقها الرجال في إشارة إلى محبوباتهم أو زوجاتهم. ​كذلك  تُرسم النساء في كثير من الحالات في صورة طيور أو زهور. وهناك رسوم أخرى ترمز إلى الزواج أوالخصوبة، كرسم زوجين يسيران معاً متشابكي الأيدي، أو صورة تمثال نصفي لإمرأة تحمل باقة زهور في إطار من الزهور، أو إمرأة تحمل طفلاً رضيعاً بين ذراعيها أو على كتفها. ​أما الشهوة، فعادة ما يتم التعبير عنها بوشم إمرأة تحمل جرة.  

وهناك أيضا مجموعة كاملة لرسوم نساء تتشبهن بالرجال، كوشم إمرأة تدخن النرجيلة، أوتحمل سيفاً، أو بندقية. وهناك أيضاً رسوم متعددة لنساء عاريات ومحظيات يرقصن، أو نساء يسحبن أسوداً مكبلة بالسلاسل – فيما يمكن أن يكون إشارة لقدرة النساء على إغواء الرجال وإخضاعهم – أو نساء الأمازون.

​تفتح المراجع المختلفة لأشكال الوشم المصري أمامنا أبواب التساؤل عن المعنى الحقيقي وراء هذا التقليد المتجذر في ثقافتنا: هل يكون الوشم هو أحد صور الزينة فحسب؟ أهوتميمة لجلب الحظ؟ أهو للتداوي والوقاية من المرض؟ أهو دليل على الولاء لقيمة أولشخص؟ أم هو لا يزيد أن يكون رغبة في التميز عن الآخرين؟  

الأمر الأكيد، أن كلاً لديه دافع يجعله يتحمل ذلك الألم الحاد الذي يصاحب جرح دق الوشم، والذي يصعب نسيانه. دافعاً يجعله بحق، جُرحاً أجمل من كل الجروح.

نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ٦ ، ٢٠١٤

الأكثر قراءة

جرجس لطفي
أيقونات الناس العادية

يستحضر “جرجس لطفي” شخوص عالمه من أيقونات الكنائس القبطية في القرنين الخامس والسادس الميلادي، ويخلق أيقونات جديدة أبطالها الناس العاديون والمشاهد اليومية، ليوثق مصر التى يعاصرها اليوم.

صيدناوية مصر
رواية الصعود والأفول

اخوان من روم كاثوليك مدينة صيدنايا السورية يأتيان الى مصر فى عصر الخديو اسماعيل، ويؤسسان امبراطرية تجارية بقى اسمها حتى يوم فى مختلف انحاء القطر المصرى.

بريق لا ينطفئ
الرقابة على صناعة الحلي فى مصر عبر الف عام

يحتاج الصائغ الى خلط الذهب والفضة بمعادن اخرى كالنحاس ليمنحهما بعض الصالبة لسهولة تشكيلهما. ومن ثم تطورت نظم الرقابه على صناعة الحلى عبر العصور حتى عصرنا هذا حيث يتم وضع شارة وحرف على كل قطعة منفردة تدخل فى صناعة الحلية.

بلاد الذهب
الحلي النوبية، اشكال ومعاني

من الصعب العثور على حلي نوبية في النوبة اليوم. فقد يجوب المرء أسواق أسوان وكوم أمبو، أوحتي دراو ) حيث يوجد سوق الحلي والمصوغات الرئيسي) حتى يجد بالكاد قطعتين أو ثلاث قطع من الحلى النوبية التقليدية.