ذهب المعز وسيفه (وملابسه أيضًا!)

الأزياء في عهد الفاطميين

كتابة يوخن سوكولي

العدد ١١

ترجمة نوران إبراهيم

بداية من المنحوتات العاجية الرائعة ووصولًا إلى المنسوجات الفخمة المطرزة بدقة بخيوط الذهب، يشير كل ما تركه الفاطميون وراءهم إلى البذخ والوفرة على نطاق لا يسعنا سوى أن نتخيله.

المقالات
الصور

عندما هزم الجيش العربي البيزنطيين ودخل مصر في منتصف القرن السابع الميلادي، اندهش الحكام الجدد من الوفرة التي وجدوها في مصر. ولكن على الرغم من ذلك لا يُعرف سوى القليل عن تأثير المصريين على الملابس العربية أو العكس، لكن المصادر تشير إلى أن الزي المصري ظل دون تغيير يذكر حتى القرن الحادي عشر، وهو الوقت الذي رسخ فيه الفاطميون وجودهم وأسسوا أسرتهم الحاكمة (٩٧٣-1171 م) التي اشتهرت بفنونها الجميلة الفريدة. لم يتبق سوى القليل من المصادر التي تخبرنا عن الملابس في مصر في عهد الفاطميين، وما بين الأدلة النصية والمادية، يمكننا تكوين فكرة عما كان يرتديه أفراد البلاط الباذخ الشهير وأيضًا عامة الشعب المصري. 

كان الفاطميون من أصل عربي، وكانت ملابسهم متأثرة بثياب أسلافهم التي تميزت بالطبقات المتعددة مع الحد الأدنى من الخياطة أو انعدامها تمامًا لكل من الرجال والنساء. كان المظهر الناتج عن ذلك بلا ملامح محددة نسبيًا مع تغطية الجسم بالكامل، كما كان الرجال والنساء على حد سواء يغطون رؤوسهم. ومن أقدم تمثيلات حياة البلاط الفاطمي نقش رخامي في متحف باردو بتونس يظهر فيه حاكم يجلس متربعًا ويحمل كأسًا مخروطية، بينما تطربه إحدى عازفات الناي. يرتدي الحاكم سترة بأكمام طويلة تزينها شرائط كتابية وحزام مزخرف عند الخصر وتاج مجنح على الطراز الساساني، بينما ترتدي العازفة فستانًا طويلًا يشبه القميص تزينه هو الآخر شرائط على الأكمام. نمط الملابس هنا يمثل مزيجًا من التقاليد العربية والإيرانية.

أزياء البلاط

يبدو أنه بمجرد تأسيس الفاطميين لعاصمتهم في القاهرة بعد دخولهم مصر تحت قيادة المعز (حكم 953-975)، تطور نمط ارتداء الملابس في البلاط ليصبح أكثر بذخًا وفخامة مما كان عليه في الأزمنة السابقة. على الرغم من اختفاء قصور القاهرة الفاطمية العظيمة، توجد وفرة من تمثيلات أنشطة البلاط في شكل أعمال فنية رفيعة من القرنين الحادي عشر والثاني عشر. يظهر على إطار عاجي منحوت ربما كان يومًا ما جزءًا من قطعة أثاث، ويوجد حاليًا في متحف الفن الإسلامي في برلين، العديد من الشخصيات بينما يتناولون الطعام ويصطادون، بالإضافة إلى الموسيقيين والمضيفين. وتبرز حركات الشخصيات المسرحية من خلال الاهتمام الكبير بتفاصيل الملابس: العباءات والسترات المزخرفة، والعمائم، والسراويل الفضفاضة، والأكمام الواسعة المتهدلة، في مشهد قريب لما نراه في رسوم نسخة باريس الشهيرة من مقامات الحريري، التي نسخها ورسمها في بغداد في القرن الثالث عشر محمود الواسطي. كما تظهر على الخزفيات الفاطمية المصقولة شخصيات مماثلة من البلاط.  من الممكن الاستدلال على انتشار نمط البلاط الفاطمي في الثياب شيئًا فشيء في أوساط الطبقات المتوسطة من خلال رسم على قطعة من مقرنص معماري من الفسطاط، موجود الآن في متحف الفن الإسلامي في القاهرة، ويظهر فيه شخص يجلس متربعًا بينما يرفع قدحًا، مرتديًا سترة ذات نقوش زهرية فوق سروال. العمامة الملفوفة بعناية هي قطعة الملابس الأبرز في المشهد، بالإضافة إلى الشال الذي يرتديه على ظهره مع تطاير طرفيه من تحت ذراعيه، وتبرزه الشرائط الزخرفية على كل من الطرفين.

جاء وصف الخزانة الفاطمية في عهد الخليفة الآمر (حكم 1101-1131) بالتفصيل على لسان القاضي الرشيد بن الزبير في كتاب الذخائر والتحف الذي استخدمه ونقل عنه المقريزي في خططه. لم تحتو خزانة الكسوة على ملابس الخليفة وعائلته وحسب، ولكن أيضا على القطع المخصصة للتوزيع على أفراد الحاشية على اختلاف درجاتهم. كانت الملابس الموصوفة بأكبر قدر من التفصيل هي ملابس الخليفة وشقيقه والأميرة الكبرى واشتملت على أكبر عدد من القطع الفردية: عشرة أو أحد عشر للخليفة، وخمسة لأخيه، وستة عشر للأميرة. يبدو أن البطانات والعباءات والملابس الداخلية كانت تصنع بشكل أساسي من الكتان مع احتواء بعضها على الحرير. لم تُذكر المواد التي صنع منها ما يبدو كثياب خارجية في القوائم المتعلقة ببدل الخليفة، لكن الثياب الخارجية في البدل الأربعة المذكورة كلها احتوت على كميات كبيرة من الذهب بقيمة لا يستهان بها. احتوت البدلة الموكبية الأولى للخليفة على ثوبين وعمامة، يحتوي كل منها على حوالي 1.5 كجم من الذهب بإجمالي يزيد عن 4.5 كجم. أما بالنسبة للأميرة الأولى، فقد صنع حجابها الثاني وعباءتاها من الحرير، لكن بدون ذهب. على الرغم من كون القوائم التي تحدد ملابس أقارب الخليفة ومسؤولي القصر أقل تفصيلاً، فإنها تحتوي أيضًا على عدد كبير من الأزياء التي كانت إما مصنوعة من الحرير أو مذهبة أو مطرزة بالذهب. كانت الرتب الأدنى في التسلسل الهرمي للبلاط، مثل الخدم وقباطنة سفن الخلافة وبحارتها، يُمنحون "السكندري" و"السوسي" و"الدمياطي"، والتي ربما كانت أقمشة كتانية أنتجتها المراكز التي ينسب القماش إليها. من الواضح أنه بالإضافة إلى المنسوجات والحرائر المزينة بالذهب، شكلت أقمشة الكتان السادة أو تلك المنسوجة بالحرير جزءًا من خزانة الملابس الملكية، وفقًا لنوع الملابس ورتبة مرتديها.

تساوي وزنها ذهبًا

بدأت شرائط الطراز في الظهور خلال الحقبة الفاطمية، حيث كانت كلمة "طراز" مصدرها فارسي بمعنى "تطريز". كان الحكام يقدمون هذه المنسوجات كخلعة أو تشريفة في احتفالات رسمية وعادة ما كانت تحمل نقوشًا باسم الحاكم الحالي أو الخليفة الذي يدين له المتلقي بالولاء. نجد إحدى الإشارات القليلة إلى الطراز في على لسان ابن أبي طيّ: "وكان من عادتهم إخراج الكسوة في كل سنة لجميع أهل الدولة من صغير وكبير في أوقات معروفة فبلغت كسوة الصيف والشتاء في السنة ستمائة ألف دينار ونيف‏.‏ وكانت خلعهم [يعني الخلفاء الفاطميين على الأمراء]: الثياب الديبقي، والعمائم الصب بالطراز الذهب، وكان طراز الذهب، والعمامة من خمسمائة دينار. ويخلع على أكابر الأمراء: الأطواق الذهب والأسورة والسيوف المحلاة. [...] وقدروا عدد القطع التي صدرت منها سنة ٥١٦ هـ فبلغت ١٤٣٠٥ قطعة." على العكس من خيوط الذهب وقيمتها، والتي فصلت بمنتهى الدقة، لا تحظى النقوش سوى بقدر ضئيل من الاهتمام في قوائم الخزانة الفاطمية. لم يتبق سوى عدد قليل نسبيًا من منسوجات الطراز التي استخدم الذهب في نسجها أو تطريزها، وينتمي معظمها إلى العصر الفاطمي، كما لم يتبق سوى بضعة أطقم كاملة وحسب في المدافن المصرية. أقدمها سترة دفن صغيرة موجودة في متحف النسيج في واشنطن، وهي منقوشة بطراز باسم الخليفة العباسي المقتدر (حكم 907-932) وصُنعت لطفل. على الأرجح فصلت هذه السترة من قطعة أكبر من القماش المنقوش بالفعل، وكان تخصيص الجزء المنقوش للكمين مقصودًا. ومن أندر سترات الأطفال الكاملة تلك التي يؤرخ لها بالعصر الفاطمي نظرًا لشرائط الأكمام ذات الزخرفة النسيجية، وهي موجودة في متحف الفن الإسلامي في برلين. تزين هذه السترة شرائط مطرزة كان الغرض منها الزينة البحتة ولم تحمل أية نقوش. السترتان مصنوعتان من قماش أساسه الكتان، بجودة مماثلة ونسيج متماسك ومحبوك. ومن الأدلة على استمرار هذا النوع من السترات وأسلوب الزخرفة بعد الفاطميين إحدى السترات المؤرخة بالكربون، توجد في برلين هي الأخرى، وتعود إما إلى العصر الأيوبي أو أوائل المملوكي في القرن الثالث عشر.

 

تفصيل التفاصيل 

تتسم سترتان كاملتان شديدتا الندرة من الكتان من مصر - إحداهما في متحف أشموليان بأكسفورد، والأخرى في مجموعة الصباح بالكويت - بنفس شكل وتفصيل سترتي الأطفال المذكورتين أعلاه. أشار التأريخ الكربوني لسترة متحف أشموليان إلى منتصف القرن العاشر (930 +/- 35 سنة)، وبناء على أوجه التشابه بين القطعتين يبدو أن التأريخ ذاته يمكن أن ينطبق أيضًا على السترة الموجودة في الكويت. فصلت كلتا السترتين من قطع من القماش المقصوص بنفس الأشكال الأساسية التي فصلت بها سترة الطفل الموصوفة للتو، وتشترك كل منهما في نفس التفصيل الأساسي والمقاس: قطعة أشموليان يبلغ طولها حوالي 170 سم وعرضها 140 سم، أما القطعة الكويتية فهي أقصر قليلاً بطول 132 سم. في كلا القطعتين، تثبت فتحة الياقة على الجانب الأيسر باستخدام زر صغير من القماش. فتحة العنق في سترة الكويت أضيق ولها ياقة مطوقة. على الجهة الأمامية والأكمام، زينت كلتا السترتين بشرائط شبه متطابقة من الزخارف الكتابية الكبيرة بالحرير المطرز بغرز واسعة، في تقليد لنقش كوفي يتكرر فيه توالي حرفي الألف أو اللام، مع ارتباط الحروف بنمط زخرفي معقود، ويكمن الاختلاف الوحيد بين السترتين في لون النمط الزخرفي: أزرق في قطعة أشموليان، وبيج مصفر في القطعة الكويتية. يشير نمط النقوش الكوفية، الذي يتكون من أحرف متعرجة بأطراف من جذوع النباتات التي تشبه الخطاطيف، إلى فترة قريبة من نهاية العصر العباسي وبداية الحكم الفاطمي في مصر. اللافت في كلا القطعتين هو الأكمام الفضفاضة بشكل مبالغ فيه. وهذا ما نراه في بعض التمثيلات التصويرية التي نوقشت أعلاه. على الأرجح كان من يرتدي مثل هذه السترة يضيف فوقها طبقة أخرى ربما في شكل عباءة أو شال.

ما نعرفه عن الملابس في مصر في عهد الفاطميين مرهون إلى حد بعيد بما تبقى منها في المدافن. بعض منسوجات الخلافة الفاطمية المنقوشة، والموجودة في العديد من المتاحف، بالفعل مذهلة وفريدة من نوعها. البعض الآخر أقل فخامة ويمثل ما كانت الطبقات المتوسطة تستخدمه، ربما مثل السترات سالفة الذكر. توفر الأدلة المصورة فكرة جيدة عن تنوع أنماط الملابس وأنواعها. ومع ذلك، لا يوجد لدينا سوى المصادر الأدبية لتعرفنا بفخامة أزياء الخلافة الفاطمية بجمالياتها المتفردة وترصيعها بالجواهر واستخدامها الغزير للخيوط الذهبية، والتي، بكل أسف، قد ضاع معظمها دون رجعة.


مواضيع:

زينة ,

تاريخ الزي

سترة كتان مع شرائط كتابية في اللحمة الحريرية التكميلية، القرن العاشر.

© مجموعة الصباح، دار الآثار الإسلامية، الكويت

كِسرة معمارية بلوحة جصية (فريسكو) من حمتم عام في الفسطاط. القرن الحادي عشر.

© بولس إسحاق، من مقتنيات متحف الفن الإسلامي بالقاهرة

يمثل "وشاح القديسة آن"، الذي يعود تاريخه إلى حوالي 1095-1097 في أثناء حكم المستعلي (حكم 1094-1101)، إحدى القطع الكاملة المنقوشة التي تنتمي للفترة الفاطمية والتي حفظت على أكمل وجه. الوشاح محفوظ في كنيسة القديسة آن في آبت، وهي بلدة تقع في جنوب إقليم فوكلوز الفرنسي، ومن المحتمل أنه قد أحضر إلى فرنسا خلال الحروب الصليبية الأولى بوصفه من الذخائر المقدسة للقديسة آن، التي كانت طائفتها قد نمت في فرنسا في القرن الثاني عشر. من المعروف أن رايمبو دو سيميان، سيد آبت ، وجيوم دو سبران، وإيزوار، أسقف المدينة، قد شاركوا جميعًا في الحملة الصليبية الأولى. تذكر النقوش أسماء وألقاب الخليفة المستعلي ووزيره الأفضل وكذلك مكان الإنتاج وهو دمياط بالوجه البحري بمصر، والتي كانت من أشهر مراكز إنتاج المنسوجات. ولا تعرف على وجه التحديد الكيفية التي ارتدي بها "الوشاح" ، حيث لا توجد أية علامات على الخياطة أو التفصيل. اقترح بعض العلماء أنه ربما كان يطوى ليصبح ثوبًا مشابهًا للبشت الحديث، وهو أحد أشكال العباءات الخفيفة.

يوخن سوكولي

يوخن سوكولي

أستاذ مشارك في تاريخ الفن في العالم الإسلامي في كلية الفنون بجامعة فرجينيا كومنولث )قطر(. تتركز اهتماماته البحثية الأساسية على الثقافة المادية لعصور الخلافة المبكرة. يعمل حاليًا على إعداد كتاب عن المنسوجات في الحقبة الإسلامية المبكرة في مجموعة الصباح في متحف الكويت الوطني.