منازل قديمة وتيارات عصرية

تجمعات الفنانين في القرن العشرين

كتابة علا سيف

على مدى قرن من الزمان، شهدت القاهرة والأقصر والإسكندرية أماكنا وبيوتا عدة جمعت الفنانين على اختلاف توجهاتهم، جميعهم تداركهم النسيان، ولم يتم دراسة تاريخها بشكل جدي. لذا وجب تسليط الضوء على أبرزها.

المقالات
الصور

كانت البداية من الخرنفش

شارع ومنطقة في شمال القاهرة الفاطمية، متفرع من شارع المعز لدين الله ويصل بينه وبين شارع بورسعيد. 

سواء كانت الرواية صحيحة أم مجرد إشاعة، عرف شارع الخرنفش، شمال القاهرة الفاطمية، بأنه مكان لتجمع الفنانين الأوروبيين والرسامين والمستشرقين في نهاية القرن التاسع عشر. ولكن بالرغم من سحره الشرقي، كان الخرنفش بعيدا نوعا ما عن وسط المدينة وبالتالي يصعب إقامة المعارض به، ومن ثم عقد المعرض الأول لفنانين الخرنفش في دار الأوبرا الخديوية عام 1881، وكان بمثابة خطوة طموحة، إذ كان يتردد على الأوبرا العائلة الحاكمة المصرية والنبلاء ورعاة الفنون من الأجانب المقيمين في حي الإسماعيلية الجديد (الآن وسط القاهرة). مضت بعدها تسع سنوات قبل أن تتمكن مجموعة الفنانين نفسها من إقامة المعرض الثاني لها، ولكن هذه المرة في محال نحمان، تاجر التحف الشهير بشارع المدابغ (حاليا شارع شريف، وسط القاهرة)، عام 1902. وعن غير قصد، كان المعرضان فرصة مناسبة لاختيار فريق التدريس الذي بدأت به مدرسة الفنون الجميلة نشاطها في درب الجماميز سنة 1908.


ما يقرب من قرن في " بيت الفنانين "

4 حارة درب اللبانة. ميدان القلعة .

في العام 1910، عثر الفنان الفرنسي بيبي مارتان (1869-1954)، وهو أحد المشاركين في معرض 1902، علي بيت من القرن الثامن عشر، عرف فيما بعد ببيت الفنانين. وسرعان ما ذاع صيته بوصفه المكان المفضل للقاء الفنانين. وكان البيت، المملوك لعلي لبيب، يقع في مدخل حارة درب اللبانة، ذات الأرضية البازلت، ثم انتقلت ملكيته للأوقاف ومن بعدها للجنة حفظ الآثار (حاليا المجلس الأعلى للآثار) وتم تسجيله ضمن قائمة الآثار الإسلامية تحت رقم 497. وخلال ترميمه سنة 2010 تم وضع لوحة تذكارية لتخليد اسم بيبي مارتان، الفنان الذي تكونت من حوله نواة المجتمع الفني داخل هذا البيت.

تغيب مارتان عن مصر لمدة عشر سنوات تقريبا بسبب الحرب العالمية الأولى، عاد خلالها إلى فرنسا، ولدى رجوعه عام 1922 اضطر إلي التخلي عن فكرة الإقامة في بيت الفنانين، فقد كون أسرة ولم يصبح البيت ملائما لإقامة مريحة. لكن على الرغم من ذلك وفر له بيت الفنانين أجواءاً مناسبة للرسم، إذ كان يجاوره استوديوهات الرسامين المصريين الناشئين حينذاك أمثال محمد ناجي وراغب عياد. وبحلول الثلاثينات، اكتسب بيت الفنانين سمعة فنية واسعة أهلته لكي يطلق عليه "مونمارتر القاهرة"، فالمكانان اللذان صارا مأوي للفنانين يقعان عند سفح معالم مدن هامة، فحي مونمارتر يوجد عند سفح كاتدرائية القلب المقدس بباريس، وبيت الفنانين على مقربة من قلعة صلاح الدين وجبل المقطم بالقاهرة. لكن الاختلاف هو أن حي مونمارتر ارتاده فنانون فرنسيون بالأساس أما بيت الفنانين بالقاهرة كان يستقبل مزيجا من المغتربين والأجانب المقيمين والمصريين الذين تراوحت اهتماماتهم الفنية بين الكلاسيكية والانطباعية والنحت والعمارة وكتابة الرواية وغيرها من أشكال التعبير الفني.

وكان من بين الرسامين المصريين الذين عاشوا في بيت درب اللبانة التشكيلي سند بسطا (1903-1964) الذي تقاسم استوديو مع لبيب تادرس (1894-1943) ومنير كنعان ورؤوف عبد المجيد (1932-1991). وبما أنه كان مكانا للإلهام والإبداع فقد جذب البيت إليه أيضا مجموعة من غير الرسامين، إذ اختاره المعماري حسن فتحي عند عودته من اليونان في الستينات لكي يسكن فيه لمدة ثلاثة عقود. أما الروائي فتحي غانم (1924-1999) فقد عاش أيضا في بيت الفنانين وعاصر جاره حسن فتحي الذي ألهمه روايته "الجبل" عن الصعوبات التي واجهها حسن بك (كما كان يطلق عليه) خلال بناء قرية القرنة الجديدة في منتصف الأربعينات. ومن الأحداث الفنية التي شهدها أيضا بيت الفنانين هي إجراء بروفات مسرحية مأخوذة عن قصة "مشربية" التي ألفها حسن فتحي ولم ينشرها، وقد اقتصر عرض المسرحية على سكان بيت الفنانين وزوارهم فقط.

كانت الإقامة في بيت الفنانين بمثابة تجربة استشراقية غاية في الثراء، فقد تنافس سكانه كل علي حدة في جمع الأثاث وقطع الحرف التقليدية من منازل العصور الوسطى والبيوت العثمانية، وكذلك في تنظيم حفلات مسائية متنوعة.

مثلا، عاش يوري ميلوسلافسكي (المعروف باسم ميلو) هناك حتى الستينات، وكان يهوديا من أوروبا الشرقية، ومدرسا للغة الفرنسية، مغرما باقتناء العاديات والقطع الفنية ذات الطابع الشرقي، ما قاده لتنظيم معرض فني في باحة البيت عام 1942. ويكشف ملف صور خاص بميلو، تم العثور عليه في أرشيف حسن فتحي، بعض تفاصيل الأمسيات الصاخبة والليالي الملاح التي كانت تقام في إيوانات وأحواش بيت الفنانين. بعض العروض كانت عبارة عن حلقات ذكر أو زار، وفي أحيان أخرى كانت حفلات للرقص الشرقي أو عزف الجيتار .

كما استأجر صدر الدين أغاخان دورا كاملا في بيت الفنانين لاستقبال ضيوفه الذين يروق لهم هذا النمط من الحياة الشرقية، وكان ضمن من أقام في البيت ايضاً بعض رواد الحركة السريالية المصرية المعروفة باسم "جماعة الفن والحرية" في منتصف الأربعينات، مثل رمسيس يونان (1913-1966) والشاعر إدمون جابيس (1912-1991).

جاء زلزال 1992 ليقضي على ما تبقى من مظاهر الحياة داخل البيت، إذ استوجبت الظروف إخلائه تماما. وقد قامت وزارة الثقافة في أبريل 2016 بإعادة افتتاح بيت الفنانين ليصبح مركزا لتوثيق العمارة المصرية الحديثة.


اتيلية الإسكندرية :

6 شارع فيكتور باسيلي. الأزاريطة.           

لم يحتذ فنانو الإسكندرية بنموذج شارع الخرنفش ولا بنموذج بيت الفنانين بدرب اللبانة، بل قام الفنان محمد ناجي وزميله جاستون زنانيري بتأسيس "أتيليه الإسكندرية" سنة 1934، علي غرار " أتيليه أثينا " الذي زاراه سويا في العام نفسه. كان الأتيليه يتألف من مجموعة وحدات غير سكنية واستوديوهات خاصة بالفنانين المستقلين. وبفضل التمويل الذاتي وإدارة مجموعة من المستثمرين السكندريين والمثقفين قام "أتيليه الإسكندرية " باستضافة معارض لفنانين أوروبيين مثل تولوز لوتريك وهنري مور ورودان. وبعد ثورة عام 1952، تم تأميم الأتيليه وفقد استقلاليته وتناقص تدريجيا عدد الفنانين الأوروبيين المترددين عليه بينما استمر وجود الفنانين المصريين. 

وكان هناك مكان آخر لتجمع فناني الثغر وهو بينالي الإسكندرية الذي بدأ رسميا عام 1955 ، بالاشتراك مع متحف الإسكندرية للفنون الجميلة.


البحث عن الهوية والطريق إلى مرسم الأقصر (المرسم)

عند سفح تمثالي ممنون بالضفة الغربية بالأقصر

ينسب لمحمد ناجي الفضل في ظهور تجمع آخر شهير للفنانين. عندما توقفت المنح الدراسية للطلاب المصريين في أوروبا نتيجة اندلاع الحرب العالمية الثانية، تعامل ناجي مع الموقف بتأسيس المرسم في منزل الشيخ علي عبد الرسول بقرية القرنة (الجرنة) في البر الغربي بمدينة الأقصر. وقد كان ناجي يهدف إلي فتح أعين الفنانين المصريين علي ثقافتهم ودفعهم لإعادة اكتشافها، ما لاقي قبولا لدى عدد من المستنيرين أمثال طه حسين وعبد الرازق السنهوري اللذان كانا يتوليان وزارة المعارف وقتها (وزارة التربية والتعليم حاليا).

وكان حامد سعيد (1908-2006) من أوائل مديري المرسم، أما صلاح طاهر (1911-2007) فقد عمل مدرسا بالمرسم وتولى إدارته سنة 1952. وفي السنة التالية جاء إليه آدم حنين وأمضى به عاما، وبعدها بسنوات قام بتأسيس سمبوزيوم النحت بأسوان.

وكان من ضمن المترددين أيضا على المرسم حامد ندا (1924-1990)، وهو من فناني الجيل الثاني للسريالية المصرية، وأصبح عضو لمجلس إدارته عام 1956. في حين أن السريالي عبد الهادي الجزار (1925-1966) الذي قضي سنة 1965 في المرسم، أصبح في وقت لاحق واحدا من أعضاء هيئة تدريسه. وفى الفترة ما بين 1959 و1967(تاريخ إغلاق المرسم) أصبح الأخير هو المكان المفضل لطلاب بعثة "التفرغ" مثل عز الدين نجيب وسيد عبد الرسول ويوسف فرنسيس ، وهو البرنامج الذي كان يشرف عليه حامد سعيد.

وخلال الستينات، قام وزير الثقافة آنذاك الدكتور ثروت عكاشة بتوظيف شباب بعثات التفرغ المقيمين بالمرسم وضمهم لمساعدة الوفود المكلفة بالتوثيق لجوانب الحياة في النوبة، قبل بناء السد العالي. وقد قام بعضهم، تحت إشراف المعماري حسن فتحي، بتوثيق العمارة التلقائية بمركز نقادة (نجادة) بالقرب من الأقصر والتي اندثرت معظم ملامحها في الوقت الحالي.


الطفرة في القاهرة:

- قصر المسافرخانة: مندثر. حارة قصر الشوق، المتفرع من شارع المعز لدين الله، القاهرة الفاطمية.

- قصر المناسترلي: في الطرف الجنوبي من جزيرة الروضة

- وكالة الغورى: شارع الأزهر، بين مسجدي الغورية والأزهر.

في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت القاهرة طفرة في أماكن التجمعات الفنية، فبعد تأسيس أتيليه القاهرة عام 1952 ، تكونت جماعة فنية على يد محمد ناجي وراغب عياد، وحملت اسم "جماعة أتيليه القاهرة". ومن المرجح أنها كانت تمثل الرد المباشر بالرفض على الأيديولوجيات الصارخة التي أطلقتها جماعة "الفن والحرية" من بيت الفنانين بدرب اللبانة. 

وفي أواخر الخمسينات، أدي نجاح مرسم الأقصر وبريق بيت الفنانين إلي تشجيع الدولة على تحويل ثلاثة من منازل القاهرة الفاطمية إلى استوديوهات للفنانين، لكنهم افتقروا إلى التلقائية التي ميزت التجربتين السابقتين. ومن هنا اشتهر بيت المسافرخانة (الذى احترق عام 1998) ووكالة الغوري اللذان يقعان على مقربة من الخرنفش حيث وجد أول تجمع للفنانين.

على هذا النحو اتخذ فنانون مثل عبد الوهاب مرسي وحامد ندا وصلاح طاهر وفرغلي عبد الحفيظ وحسن سليمان وعبد القادر عبد الرازق عبد الحميد من قصر المسافرخانة مقرا لهم، أما علي الدسوقي وحسن عبد الفتاح وعز الدين نجيب وراغب إسكندر فقد استقر بهم الحال في وكالة الغوري.

من ناحية أخرى شهد بيت المناسترلي (جنوبي جزيرة الروضة)، الذي شيد سنة 1851 وينتمي للطراز العثماني، اجتماعات حامد سعيد الأسبوعية ومعارض جماعة "الفن والحياة". ومن الجدير بالذكر أيضا أن بيت حامد سعيد بمنطقة المرج كان قد تحول إلى صالون يلتقي فيه مثقفو ومبدعو الخمسينات والستينات.

على الرغم من أن القائمين على هذه التجمعات كان لكل منهم توجهه وذاتيته، إلا أنهم شكلوا منظومة تعكس بإخلاص المضمون والسياقات الاجتماعية والسياسية لمصر في القرن العشرين، ومجرد مقارنة تجاربهم بالمراكز الثقافية الحالية يتضح أن لا شيء يقترب من التعددية الثقافية التي نجحوا في تحقيقها في بدايات القرن الفائت. 


 نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ٨، ٢٠١٦

مواضيع:

الفن الحديث

الصورة مأخوذة من كتاب "٥٠ سنة من الفن" لكمال الملاخ ورشدي اسكندر مجموعة من نقاد وهواة الفن في زيارة لمعرض ببيت الفنانين عام ١٩٦٠

تصوير فان ليو - مكتبة الكتب النادرة والمقتنيات الخاصة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة أنجلو دي ريز، عضو مؤسس بالجماعة السريالية “الفن والحرية”، جالسًا بمرسمه ببيت مماثل (ربما يكون بيت الدهبية) بجوار بيت الفنانين بدرب اللبانة.

مكتبة الكتب النادرة والمقتنيات الخاصة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة حفلات مسائية بشقة ميلو في بيت الفنانين. يصف المؤرخ سمير رأفت إقامة ميلو في بيت الفنانين قائلًا: “أجمع الكثيرون أن الخواجة يوري ميلوفيتش، الشهير بميلو، والذي كان يهوديًا من أوروبا الشرقية، هو من جعل من بيت الفنانين معلمًا قاهريًا مهمًا. كان المندوبين السياحيين والمراكز الثقافية يقومون بالحجز هناك عند زيارة مجموعات مهمة أو فرق رقص. الجماعة السنيمائية أيضًا كانوا من رواد المكان، و كانوا يستمتعو ن وسط طابعه المملوكي الأصيل بأفضل ترفيه بالقاهرة، من كباب وكفتة، إلى راقصي التنورة، وعروض الزار. الضيوف دائمًا ما كانوا تستقبلهم أم سيد، البوابة حدباء الظهر، حاملة فانوس، لترشدهم للطريق إلى السطح، حيث ينتظرهم منظر يحوي ألف عام من التاريخ العمراني. اختلط في بيت الفنانين علية القوم من أبناء الباشوات مع عامة الشعب في ضيافة قاطني حي القلعة الفقير و كان معظمهم من اصدقاء ميلو.

ارشيف المركز الفرنسى للدراسات السكندرية مقتطف من نشرة أتيليه الإسكندرية لعام ١٩٧٢، قام بتصميم الشعار و استخدام فن الخط العربي به الرسام محمد فريد.

ارشيف المركز الفرنسى للدراسات السكندرية مستند يعود لعام ١٩٣٤ يحمل توقيعات مؤسسى اتيليه الأسكندرية: محمد ناجى (رئيس)، تيرنى (امين عام)، سيباستى (السكرتير الفنى)، ساسون (ايمن الصندوق)، مدام كارافيا، ريشارد، نيكولايديس، ساركيسيان، ريشارد، انجيلوبولو، محمود سعيد، ميشيلز، سكوتيلا، غيومانى، كومب ورولو (اعضاء).

ARCHIVES CEALEX/CNRS

مجموعة صور كريزويل - مكتبة الكتب النادرة والمقتنيات الخاصة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة الرواق الرئيس بقصر المسافرخانة، والذي تحول فيما بعد إلى مراسم للفنانين.

علا سيف

علا سيف

مؤرخة فنية ومصورة فوتوغرافية. صاحبة مجموعة ضخمة من الصور الفوتوغرافية عن مصر. كانت أطروحتها للماجستير" دراسة تاريخية لمنطقة خان الخليلى وتطورها من حى سكنى إلى حى تجارى" . تهتم حاليا بدراسة الرواد من المصورين الأوروبيين فى مصر، وكذلك العمارة الحديثة لأنطوان سليم نحاس بالقاهرة.