الحرير ذو البريق في دولة المماليك
القماش الذي مثل أساس الرفاهية المملوكية
كتابة شيرين اللينجر
من بين جميع الأقمشة الفاخرة التي أنتجتها مصر في العصر المملوكي، ربما كان الحرير هو الأكثر شهرة وطلبًا عبر العالم في القرون الوسطى.
مع تأسيس السلطنة المملوكية عام 1250 م.، أضحت القاهرة المركز الثقافي الأهم في منطقة المتوسط. شهد المسافرون الأجانب والحجاج والمبعوثون إلى البلاط المملوكي على المنظر الاستثنائي للأقمشة الملونة، ووصفوا كل شيء من الأقطان المطبوعة بالكليشيه والمطرزات الهندية المستوردة إلى أرقى أنواع الحرير المصنوعة لأعيان القاهرة. قال الظاهري، وهو أحد رجال الدولة المملوكية المهمين ومن أهل العلم: "ورد في أيام الملك الظاهر برقوق قاصد من تمرلنك فأنزل بدار الضيافة وبها مكان يشرف على المشرع فصار ينظر من هناك فرأى أقوامًا وخلقًا كثيرًا مختلفي الهيئات والملبوس فسأل من المهمندارية ما هؤلاء فسموا له كل طائفة فتعجب من ذلك وقال نحن في بلادنا ملبوس السلطان والأمير والخدم والفلاحين هيئة واحدة... وقال [السلطان برقوق] إن ذلك الذي رآه مختصر وأما في أوقات يقتضى لبس القماش لكل طائفة يكون أنواع غير ذلك فإن ثياب الخدمة لا تلبس في غيرها وكذلك ثياب السفر وكذلك ثياب السرحات والصيد وكذلك ثياب التخفيف وكل نوع من هؤلاء يطول شرح تفصيله."
الإلهام والابتكار
صُنعت الملابس المملوكية المخصصة للاستخدام اليومي من مجموعة كبيرة ومتنوعة من المواد وبأنماط مختلفة، من الحرير المقلم والمتعدد الأنماط بألوان زاهية إلى الكتان أو الأقطان المطرزة بالحرير المجدول الذي كان تقليدًا للحرير الفاخر الذي تنتجه دار الطراز (المصانع السلطانية). اشتهرت العديد من المدن بنسج الحرير، بما في ذلك القاهرة ودمشق ودمياط، لكن الإسكندرية كانت مركز النسيج الرئيسي فيما يتعلق بثياب المراسم والاحتفالات. عندما بدأ الإنتاج السكندري في الانخفاض في أواخر القرن الرابع عشر، انتقل معظم النساجين إلى أسواق القاهرة، حيث استمروا في العمل تحت إمرة السلطان. في "الخطط المقريزية"، يذكر المؤلف أن سوق الخلعيين (سوق التشريفات) كان "من أعمر أسواق القاهرة لكثرة ما يباع فيه من ملابس أهل الدولة وغيرهم وأكثر ما يباع فيه الثياب المخيطة". بالإضافة إلى أسواق الأقمشة، كان المصدر الرئيسي الآخر لإلهام المطرزين وصناع الأقمشة المحليين هو الاحتفالات والمراسم. في المناسبات الدينية أو العسكرية أو السياسية، كان السلاطين والأمراء يختالون على جيادهم المزينة بألجمة من الحرير والذهب عبر شوارع القاهرة مرتدين أفخم الثياب وأكثرها بذخًا. لم تكن الثياب الحريرية المصممة والمنفذة بعناية، ولا سيما الخلعة، رمزًا للثروة فحسب، بل كانت أيضًا رمزًا للسلطة.
مع ظهور نول السحب في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، تمكن الحرفيون المملوكيون من تكييف مجموعة واسعة من الأنماط وتحسين مهاراتهم في نسج الحرير الفاخر بدرجة كبيرة من المصنعية والحرفية. وأسهم الحرير وأنواع الأقمشة الأخرى المستوردة من الشرق بشكل كبير في استلهام تصاميم جديدة وإدخالها إلى ذخيرة الزخرفة المحلية. ونتيجة لذلك، حظي الحرير المملوكي بالكثير من الإعجاب والتقدير عبر منطقة المتوسط وحل محل الحرير المغولي في السوق الأوروبية بحلول النصف الثاني من القرن الرابع عشر.
تبقت المئات من قطع الحرير وعدد قليل من الملابس والإكسسوارات الكاملة - بما يشمل العرّاقات (الطواقي) والسراويل والأردية والحقائب - من العصر المملوكي. نقب تجار الآثار وجامعو التحف عن العديد من هذه القطع بشكل غير قانوني ثم باعوها ونقلوها إلى الغرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بينما استخرجت قطع أخرى بعد التنقيب عنها بشكل علمي من المواقع الأثرية المصرية مثل منطقة القصير القديمة، وجبل عده، وأخميم، والفسطاط. وبالنسبة لقطع الحرير المملوكي الفاخر المحفوظة على أفضل وجه، فهي تلك التي حفظتها الكنائس الأوروبية في صورة أردية القداس وأغطية المذابح وعباءات تماثيل العذراء، ولم تزل صامدة حتى اليوم في شهادة حية على المصنعية المتقنة للحرير المملوكي.
الحرير المسافر
صنعت أوائل أنواع الحرير وفقًا لتقاليد النسيج والأنماط الزخرفية للحرير الذي أنتجه الأيوبيون (1169-1250). بحلول أواخر القرن الثالث عشر، بدأ النساجون الذين هاجروا إلى مصر وسوريا من المناطق التي احتلها المغول - بما في ذلك إيران والعراق، في إدخال التصميمات الأجنبية إلى الثياب المحلية. وقد أدى ذلك إلى تطوير ذخيرة زخرفية مملوكية متفردة من المنسوجات. مثل منافسيهم المغول، أنتج المماليك الطراز، وهو حرير مقلم أو مخطط مع نقوش كتابية، مع ظهور تيمات من الرسوم والصور الشائعة مثل صف من الحيوانات الراكضة أو مشاهد الصيد على بعض الأشرطة/ الخطوط. أما الكتابة فتشير عادة إلى السلطان بصيغة "عز لمولانا السلطان الملك الناصر". أحد أفضل الأمثلة المتبقية من هذه الفترة المبكرة هو قطعة من معطف بتصميم أكثر تعقيدًا ونقوش تشير على الأرجح إلى السلطان الرسولي اليمني المؤيد داود بن يوسف (حكم 1297-1321). من الممكن أن يكون المعطف قد صنع للسلطان إما كهدية دبلوماسية أو عمولة خاصة.
يجسد زوج من الأكفان – يعود تاريخهما إلى أواخر القرن الثالث عشر، وعثر عليهما في أحد مواقع الدفن المسيحية في جبل عده في جنوب النوبة – خصائص الحرير المملوكي المقلم. أحدهما مكتوب عليه "لمن نظر، أنا القمر". كانت الكتابات الشعرية على المنسوجات التي تخاطب فيها قطعة الملابس نفسها أكثر انتشارًا في مناطق إسلامية أخرى بما في ذلك الأندلس وإيران. أما الأمنيات الطيبة، مثل "العز والنصر والبقاء"، فقد كانت شائعة جدًا في أرجاء السلطنة المملوكية. كلا القطعتين متطابقتان تقريبًا وإحداهما مختومة بكلمة "أسيوطي"، مما يشير إلى أنهما قد تكونان من إنتاج نفس ورشة النسيج، بل وربما نفس النساج أيضًا، في أسيوط بصعيد مصر. يظهر مثال آخر على الحرير المقلم والمنسوج بدرجات من اللون البيج العاجي والأزرق والأسود في قطعة يُفترض أنها وجدت في مقبرة قبطية مع وجود تصميمات هندسية تشتمل على صلبان على بعض الخطوط بها. من حيث الأسلوب والأنماط وتقنية النسج، تشكل هذه القطع جزءًا من مجموعة أكبر من الحرير المملوكي المقلم المتناثر عبر المجموعات الفنية المختلفة. كانت هذه القطع تستخدم لأغراض مختلفة، ولكن انصب استخدامها الأساسي على الثياب والمفروشات. وتشير خصائصها المادية ومناطق العثور عليها إلى تصنيعها على يد صغار المنتجين المحليين بداخل المجتمعات المسيحية.
الرعاية السلطانية
في عهد الناصر محمد (حكم 1293-1341)، شهد إنتاج الحرير المملوكي طفرات فنية وتكنولوجية، مما تطلب مهارة كبيرة في مصنعيته. تراوح نطاق تقنيات النسيج من النسيج العادي البسيط مع أنماط من اللحمة التكميلية إلى الأنسجة الأكثر تعقيدًا مثل الدِّمقْس واللامباس والبروكار. يمكن أن تنسب العديد من أنواع الحرير هذه بسهولة إلى رعاية الناصر محمد استنادًا إلى أنماطها ونقوشها، حيث غالبًا ما تضمنت هذه النقوش اسم السلطان "قلاوون". مع مرور الوقت، أصبحت النقوش أصغر واقتصرت في النهاية على كلمة أو كلمتين تدمجان عادةً في التصميم الذي تسوده الأنماط الهندسية والزهرية والحيوانية.
إحدى أرقى الحرائر المملوكية من عصر الناصر هي قطعة من سترة طفل بتصميم يجمع بين شرائط بنقشة من المربعات تشكل رصائع بيضاوية مع حليات دائرية صغيرة تذكرنا بالرنوك المملوكية. كانت هذه الملابس الباذخة التي ارتداها السلاطين والنبلاء وأولادهم، تلبس مع أغطية رأس من نفس النمط، مثل العراقات المبطنة والتي كانت ترتدى تحت العمائم. يشير التنوع الكبير للعراقات المملوكية المتبقية إلى أنها كانت نتاج حرفة متخصصة تطلبت مهارات مختلفة. بالإضافة إلى العراقات المبطنة، تكونت بعض العراقات من قطع من الحرير المتصلة بشرائط منسوجة وموشاة، التي كان الغرض منها إما نقشها بكلمات معينة أو الزينة البحتة. تشير الزخرفة الكثيفة لهذه العراقات إلى أنها كانت تُلبس أيضًا وحدها دون عمائم، على الأرجح في الدوائر الخاصة والمقربة.
وهناك عدد من قطع الحرير التي يعود تاريخها إلى فترة لاحقة، وتحديدًا القرن الرابع عشر، توضح التنوع الكبير في الملابس الباذخة في البلاط المملوكي. تقتصر نقوشها على كلمات مفردة مثل "السلطان" أو "الملك" داخل إطارات زخرفية منسوجة إما متباينة مع الخلفية ذات النمط الأفتح أو ممتزجة مع سمات زخرفية أخرى. وتوجد قطعة أخرى سطحها مغطى بالكامل بأزهار الفاوانيا الكبيرة على سيقان مورقة وملتفة، وهي مستوحاة على ما يبدو من الأنماط الصينية. كانت تصاميم الشينواه الصينية هذه شائعة جدًا لدرجة استخدام الزجاجين المملوكيين لها على مشكاوات المساجد الزجاجية التي ينسب عدد منها إلى رعاية السلطان حسن (حكم 1347-1351، و1354-1361).
على الرغم من أن نسج الحرير كصناعة قد مر بفترة تراجع في النصف الثاني من القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، استمرت ورش الإسكندرية في تصنيع الحرير الفاخر على نطاق محدود. أفاد الظاهري، الذي كان أيضًا نائبًا للإسكندرية، أن الميناء قد أنتج منسوجات استثنائية لا مثيل لها في أي مكان آخر. وبالفعل، لم تزل أفخم أنواع الحرير التي يعود تاريخها إلى تلك الفترة موجودة ومحفوظة في الكنائس المسيحية في أوروبا. ومن أشهر قطع الحرير المملوكية عباءة تمثال السيدة العذراء، على الأرجح من كنيسة بالقرب من فالنسيا بإسبانيا (الصورة 9). يتسم تصميم العباءة بالإتقان الشديد، فهي تتكون من عدة قطع بأشكال من أزهار اللوتس المستوحاة من النمط الصيني ورصائع منقوش عليها "عز لمولانا السلطان الملك" و"السلطان الملك". وبغض النظر عن النقوش التي تمدح سلاطين المماليك، كان الحرير المملوكي عادةً ما يُصوَّر في اللوحات الإيطالية ذات الموضوعات المسيحية مثل لوحة مادونا مع الملائكة والقديسين التي رسمها جيراردو ستارنينا حوالي عام 1410. مع الغزو العثماني في عام 1517، تقلص إنتاج الحرير السلطاني الفاخر في مصر بشكل كبير حتى اندثر تمامًا في نهاية المطاف.

“مادونا مع الملائكة والقديسين”، اللوح المركزي للوحة الثلاثية المرسومة لمذبح خاص في كنيسة القديس فريديانو في لوكا، تنسب إلى جيراردو ستارنينا، 1410 تقريبًا، (تفصيلة)
© متحف مارتن فون فاجنر بجامعة فورتسبورج

قطعة من ثوب. حرير ودمقس، مصر، القرن الخامس عشر. ظهر الحرير المملوكي من العصور اللاحقة في اللوحات الدينية واللوحات الجدارية الإيطالية في القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. ومع ذلك، فمن النادر جدًا العثور على حرير محفوظ يطابق ما رسمه الفنانون الإيطاليون. وأحد الأمثلة النادرة هو هذه القطعة من الدمقس الذي توجد أوجه تشابه بينه ورداء العذراء في لوحة ثلاثية رسمها جيراردو ستارنينا حوالي عام 1410 . لابد أن الحرير المملوكي كان يتمتع بشهرة عظيمة لدرجة أن عدم انسجام النقوش العربية التي تمدح سلاطين المماليك )“السلطان الملك” و“عز لمولانا السلطان”( مع السياق لم يكن أمرًا ذا بال للرسامين الإيطاليين.
© متحف فيكتوريا وآلبرت

قطعة من ثوب. حرير، دمقس مع لحمة تكميلية، مصر، القرن الرابع عشر. بمرور الوقت، اقتصرت النقوش على الحرير المملوكي على كلمات مفردة مثل “السلطان” أو “الملك” داخل إطارات زخرفية. تتميز قطعة السترة أو المعطف هذه بتصميم غير اعتيادي يحتوي على نقوش كبيرة بزخارف متشابكة؛ وحليات دائرية أصغر حجمًا على هيئة توريقات مكتوب عليها “السلطان”؛ وإطارات زخرفية زهرية متشابكة مصنوعة من لحمة إضافية بلون غامق. في المقابل، الخلفية مغطاة بالكامل بحليات على شكل توريقات وأزهار مختلفة باللونين الأزرق والعاجي. هذه القطعة هي أحدى الأمثلة التي توضح التنوع في تصميم الأزياء المملوكية.
© متحف الهيرميتاج

القديس مرقس يعظ في الإسكندريةلجنتيلي بيليني وجوفاني بيليني، ١٥٠٤-١٥٠٧. كثيرًا ما صور الرسامون الأوروبيون مثل بيليني وكارباتشيو ومانسويتي في القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر المماليك وأزياءهم. على الرغم من أن بعض القطع الحريرية التي تظهر في هذه اللوحات تبدو من أصل إيطالي أو عثماني، فإن شكل الملابس وتفصيلها يطابق النمط المملوكي.
© متحف بريرا للفنون
شيرين اللينجر
حصلت على درجة البكالوريوس في تاريخ الفن من جامعة السوربون )باريس ( وماجستير في 4 تاريخ الفن وعلم الآثار في الشرق الأوسط الإسلامي تعمل حاليا على .SOAS من استكمال رسالة الدكتوراه خاصتها تحت عنوان "إنتاج الحرير المملوكي في 11 ")04 - مصر وسوريا ) 025 في جامعة بون. وتعمل في مجموعة ناصر خليلي للفنون الإسلامية في لندن.