الإستمرارية فى الحضارة المصرية

كتابة جمال الغيطاني

الحضارة المصرية دائماً ماتقسم الى حقب منفصلة: الفرعونية، اليونانية والقبطية، الإسلامية، الا ان هناك تياراً قوياً من الإتصال والإستمرارية، يربط بينها جميعاً..

عندما اتم والدي رحلته في الحياة، تمدد فوق الفراش، موجود وغير موجود، جاء الأقارب لألقاء نظرة أخيرة عليه، وقف أكبرهم سنا الي جواره، أنحنى حتى قارب فمه اللأذن التي لم تعد تسمع، غير أنه نطق بعبارات مؤثرة، ناداه باسمه كأنه حي، ثم طلب منه الايشعر بالوحدة، كل هؤلاء جاءوا من أجله، ولأنه صالح أدي رسالته في الحياة كما يجب، فلن يلقى مخاطر في الطريق، واذا واجه بعضها فليتلو بعض آيات القرآن الكريم.

رغم أن الجمل من القرآن، من التراث الاسلامي، الا أن هذا الطقس الذي مارسه أقدم اقاربنا عمرا يمت الي معتقدات مصرية عتيقة، الي ثقافة مصرية غائرة، يمارسها المصريون علي اختلاف معتقداتهم وهم لا يعون انهم يستمرون بثقافة الأجداد، تماما كما ينطقون مئات الالفاظ في لغة تعاملهم اليومية وهم لا يعلمون أنها كلمات مصرية قديمة، تدخل في تراكيب خاصة أضفت الخصوصية علي العامية المصرية المتفردة في إطار اللغة العربية الفصحى.

أحيانا أتوقف في الريف المصري، خاصة في الجنوب الذي ولدت فيه قرب الأقصر وابيدوس، امام مشهد معين لقرية، مزرعة، لطائر مرفرف، الي قرص الشمس عند المغيب او الشروق، الي عودة الفلاحين من الحقول الي البيوت، ألغي بعقلي بعض وسائل العصر، مثل اعمدة الانارة او العربات اذا تصادف وجودها، عندئذ لا أري أي تناقض بين مشاهد الحياة المرسومة علي جدران المقابر وتلك التي تطالعني.

اشم رائحة الخبيز فى البيوت، خاصة العيش الشمسي، طريقة الخبز المصرية القديمة، أن يوضع العجين في النهار ليرضع من الكون، من أشعة الشمس. أتنسم رائحة الحياة عند نضجه وخروجه من الفرن، أثق انها نفس الرائحه التي عرفها الأجداد القدامى منذ الاف الاعوام. مازال متحف تورينو يحتفظ بثمانية أرغفة في مقبرة كا، أنه عين الخبز الذي فتحت عيني عليه في صعيد مصر، اتأمل وسائل حفظ الطعام، بدءا من الجبن، المش، السمك ( الملوحة والفسيخ) والملوخية الناشفة، ما تزال تعد بنفس الطرق التي كانت متبعة، بل ان شكل الجلسة حول (الطبلية) وآداب الطعام لا يختلفان كثيرا عن الرسم.

ذات صباح كنت في طريقي الي مكتبي بمؤسسة أخبار اليوم الصحفية حيث تقع في واحد من أقدم أحياء القاهرة، بولاق، فجأه رأيت مجموعة من النساء يخرجن من حارة جانبية، كلهن متشحات بالسواد، أحداهن شابة، فارهة الطول، تتوسط الصف الأول ، وجهها ملطخ بالنيلة الزرقاء، علامة الحزن المصري القديم، تقوم بحركات تشبه الرقص، لكنه رقص ملتاع، حزين، يداها تتحركان الي أعلى، في تلك اللحظه رأيت عين المشهد الشهير للنائحات في مقبرة راموزا بالبر الغربي بالاقصر، إنه مشهد يتكرر كثيرا في المقابر التي وصلت الينا، انه التعبير الانساني عن الحزن الابدي، الحزن الأقسي نتيجه الفقد، الفقراء، الحزن المؤلم، بسببه رفض المصريون القدماء الموت، اعتبروه بدايه لحياة الابدية، اطلقوا عليه الخروج الي النهار، اذ يتحد الانسان بعد موته بضوء النجوم. في مصر العليا عندما يري الناس نيزكا يهوي ليلا، يقولون أنه روح مغضوب عليها، مطرودة من راحة الأبد، أو انها روح انسان تخرج في تلك اللحظة، ثمة صلة بين الكون الفسيح ومظاهره، وبين الانسان، بين أدق تفاصيل الحياة وكافة مظاهر الطبيعة.

خلال تنقلي بين الحاضر الذي أعيشه والماضي الذي أقرأ عنه، عرفت العنصران الاساسيان اللذان يحكمان الحياة المصرية وثقافتها. إنهما الاستمرارية والتغيير، عنصران متضادان، متلازمان، متفاعلان، يشكلان جوهر الحالة التي أدت الي تأسيس أول مفردات الحضارة الانسانية وأقدم مفرداتها.

نهر النيل بلا شك هو الشريان الرئيسي لتلك الحياة التي سعت الي ضفتيه، انه الانسان الذي جفف المستنقعات وتوصل الي واحد من أعظم اكتشافات البشرية، الزراعة، السيطرة علي النهر الذي يشكل خطرا داهما اذا زاد فيضانه، واذا شح ايضا. عندما عرفت تفاصيل تتعلق بالزراعة، بوضع البذور، تنقية التربة، سقايتها، رعايتها، مقاومة آفاتها، تساءلت؟ كم من السنين أقتضي الأمر حتي توصل الانسان الي معرفة ذلك. لماذا في تلك المنطقة التي تلي الشلالات عند أسوان وحتي حدود البر شمالا والتقائها بموج البحر، تلك المنطقة التي نسميها مصر أو كيميت في الزمن القديم أي الأرض السوداء؟ كم من الزمن توصل خلاله الانسان الي س الزراعة، الي ابتكار حروف الكتابة، ترميز الواقع؟

لماذا لم تظهر تلك الحضارة في مناطق أخرى من النهر من منابعه الاثيوبيةأو البحيراتية حتي الشلالات؟ يتعلق الأمر بالبشر الذين عاشوا في تلك المنطقة، انهم المصريون الذين عاشوا فوق هذه الارض، عانوا، وتأملوا حركة الكون من شروق وغروب، تدفق مياة النهر، نزول النقطة، أول نقطة ماء في الفيضان، وصولها صيفا مع ظهور النجم سوتيس، نزول النقطة يمكن اعتباره البداية للتكوين الروحي والثقافي للقوم، لا تعنيني جذورهم البعيدة، وتلك الافتراضات التي يطرحها المتخصصون حول المناطق التي قدموا منها الي الوادي، ما يعنيني انجازهم الانساني الذي هو ثقافي وروحي بالاساس، الثقافة بمعني محاولة فهم الكون، الموقف من الحياة كما تتدفق مياة النيل، مرة تفيض هادرة، ومرة تنسحب منحسرة، كذلك البشر، لم تنقطع المياة من المجري قط، ولم يتوقف توالي الانسان، استمرارية الوجود، لم ينقطع وجود المصريين، وفد عليهم بشر آخرون، جري استيعاب وتغير، متغيرات تمت في هدوء، وأخري عنيفة، مؤلمة، في أحد المراحل طال اللغة والمعتقد والنظام المستقر منذ آلاف السنين، ُ هزم المصريون ماديا وروحيا عندما قبلو الإسكندر الاكبر بإعتباره ابن الاله آمون، ونصبه الكهنة في واحة سيوة فرعوناً، لم يكن الفراعنة من خارج حدود كيميت فقط، بدأ العصر البطلمي، لكن ما أستوعبت مصر الحكام الجدد، اعتنقو رؤيتها تماما. عندما نقترب من معبد حتحور في دندرة، أو حورس في أدفو، لن نشك في أنه معبد فرعوني بكل مظهره السافر و المكنون. وإن لم يعرف الزائر الخط الهيروغليفي فلن يدرك ابد أن من بني المعبد هم البطالمة ذوي الاصول الاجنبية. عانت مصر من الغزو الفارسي، والآشوري وقبائل البدو في الصحارى المحيطة، في مرحلة أخري أصبحت مصر ولاية تابعة للامبراطورية الرومانية، وجري تغير روحي عميق عندما اعتنقت مصر المسيحية التي أري انها اعادة صياغة للدين المصري ذاته، وعندما اعتنق المصريون الديانة الوافدة أضافوا رؤيتهم هم، وماتزال سائدة وراسخة رغم عصور الاضطهاد في العصر الروماني.

كل متغير عميق يطرأ يطال السطح، و ربما ينفذ قليلا، لكن بأساليب شتى يبدأ القوم في الحفاظ علي المكنون القديم، هناك في العمق، حيث لا يمكن لغزاة جدد أن يطولوه أو يجتثوه. هذ المضمون يستمر في تفاصيل الحياة اليومية، الطعام، مفرداته، طريقة طهيه، تقديمه، الآداب المرتبطه بة، في الموسيقي، في الأدب الشعبي، في المعتقدات المتوارثة عبر المرأة خاصة، الأم التي تلقنها للابناء مع حليب الرضاع، في العمارة، من اللحظات التي أطيل التأمل فيها، أتمني أن أشهد ما جرى خلالها، تلك الليلة في معبد ايزيس بجزيرة فيلة بأقصي الجنوب، آخر معبد ظلت الشعائر تقام فيه لعبادة رمز الأمومة والانوثة والتضحية. الإلهة ايزيس التي أصبحت عند المصريين فيما بعد “ العذراء” ثم “ السيدة زينب” شقيقة الإمام الحسين. اصدر الامبراطور الروماني أوامره بابطال الشعائر المصرية في سائر انحاء مصر، في تلك الليلة تُليت الصلوات من أجل الإلهة ايزيس و ترددت الترانيم، أغلق المعبد لكن … هل انتهت عبادة ايزيس فعلا؟ هل تواري رمز الامومة والتضحية، الام والاخت والزوجة الحنون ام انه أتخذ بعدا اشسع أكثر رحابة؟

عندما دخل العرب مصر في القرن السابع الميلادي، كانت مصر منهكة، مثخنة بجراحها لكنها لم تكن خاوية، كان المصريون يعتنقون المسيحية طبقا لرؤية الكنيسة المصرية القبطية، كان الماضي البعيد مبهماً، غامضاً، اختفت دلالات اول ابجدية في التاريخ، الهيريوغليفية المقدسة، أصبحت مستمرة في اللغة القبطية التي امتزجت قليلا باليونانية وأخذت ابجديتها. اما العمائر الهائلة من معابد ومنشآت ومقابر فقد اختفت دلالاتها، تحولت الي اطلال، بل انها تحولت الي خرائب بأيدي المصريين أنفسهم، وهذا ما وقفت عليه من مظاهر الاستمرارية والتغير.

عندما اعتنق المصريون المسيحية الوافدة اعتبروا الديانة القديمة معادية، بدأ بعضهم تحطيم رموزها، هذا ما نراه في الاجزاء السفلية من معبد ابيدوس على سبيل المثال، نري اللوحات الجدارية مشوهة، خاصة العيون والأنوف، هذا معتقد مصري قديم، فعندما كان المصري يرسم شخص و يقدم علي تسميل عينيه أو تشويههما فهذا يعني بالنسبة له حرمان الشخص نفسه من النظر والشم، اي الرؤية والتنفس، أي اعدامه. هكذا بنفس الثقافة المصرية التي ورثها المؤمنون بالدين الجديد يدمرون تراث الأجداد بأعتبارهم كفارا غير مؤمنين، ثم يكتب المؤمنون الجدد تحت ما قاموا به أنهم أقدموا علي ذلك تقربا الي الرب. عندما غزا العرب مصر و جاءوا لنشر الدين الجديد، الاسلام الذي يحرم التصوير والنحت، رغم ذلك فإنهم لم يلحقوا أذى كبيرا بالآثار القائمة، رغم اعتبارهم لها أصناما وثنية، لماذا؟، ربما تقربا لاهل البلاد في البداية، و ربما لسريان و قوة الاسطورة. عندما كنت طفلا صغيرا في قريتي جهينة بجنوب مصر، كان الاهالي يصفون التماثيل المصرية القديمة القائمة في الجبل بالمساخيط، اي أن هذه التماثيل كانت في الأصل بشرا ثم سخطهم الله حجارة بسبب معاصي ارتكبوها. وكان هناك آخرون يقولون إن هذه التماثيل عليها ارصاد، أي حراس من العالم الآخر تحميها وتؤذي من يقترب منها أو يتعرض لها بسوء، هذا امتداد للمعتقد المصري القديم، فتمثال انوبيس يوضع امام المقبرة عند المدخل ليحميها، كذلك الرسوم والتعاويذ.

الآن تبدو مصر القديمة في الظاهر كأنها تمت الي آخرين، بعض المناهج الدراسية تقول بمرحلة فرعونية وأخري قبطية وثالثة إسلامية، وفي رأي هذا مفهوم خاطئ، فالتاريخ المصري واحد لكن تختلف مراحله، جوهره مستمر في الثقافة العميقة، الدفينة للبشر، صحيح ان تلك الثقافة تغيرت في تلك المراحل، لكنه تغير خارجي لم يمس الصميم، تلك هي الجدلية ولب المشكلة في ثقافة المصريين.

ثمة مشكلة أخري، فالرؤية العبرانية للمصريين انتقلت الي المسيحية ثم الي الاسلام، الفرعون اصبح رمز الطغيان وفقا للنص المقدس، سواء العهد القديم أو القرآن الكريم، في نفس الوقت يشعر المصريون بالفخر لأنهم احفاد من ابدعوا هذه الفنون كلها، من عمارة ورسم وأدب، ذلك هو التناقض في وعي غالبية المصريين خلال العقود الاخيرة بدءا من السبعينات في القرن الماضي، مع تصاعد التشدد الاسلامي المستند الي التعاليم الوهابية القادمة من الصحراء، خلال الثورة الوطنية الكبري عام 1919ضد الاحتلال الانجليزي لم يشعر المصريون بهذا التناقض، كان ابتعاث التقاليد المصرية القديمة في العمارة، في الرسم، في الابداع الادبي، ملمحا هاما لحركة النهضة، دائما يعيد المصريون اكتشاف الجذور البعيدة عند تطلعهم الي النهضة، في المراحل التي كانوا يجهلون فيها تفاصيل تاريخهم القديم كما نجد ذلك في العصر المملوكي وبالتحديد في العمارة، المساجد المصرية التي شيدت في العصر المملوكي، حتي هزيمة المماليك في مواجهة الأتراك العثمانيين عام 1517 ماهي الا استعادة لتقاليد المعمار المصري القديم. بعد اكتشاف اسار اللغة المصرية القديمة علي يدي شامبليون وبدء وعي المصريين بتفاصيل تاريخهم، أصبحت مصر القديمة مصدر الهام ثري، تأثرت الرؤية سلبيا بتيارين سياسيين، الاول هو القومي العربي اثناء فترة مده فى الخمسينات والستينيات والذي اعتبر مفكروه مصر الفرعونية نقيضا للفكرة العربية، وفي العقود الاخيرة تتبني الرؤي المعادية بعض التيارات الدينية الاسلامية المتشددة. إن وضع المراحل التاريخية لوطن قديم مثل مصر في تعارض مع بعضها البعض لمماً يثير الأسى، لكنها خطايا عابرة في تقديري، فلكم مرت رياح هبوب، بعضها مدمر علي النهر والوادي والبشر، غير ان الجوهر ظل مصوناً في العمق، نحتاج فقط الي جهد لنبصره ونرصده. عندئذ نكتشف انجاز الثقافة المصرية العميق، الاستمرار مع التغير، هذا الاكتشاف ضروري لروح الامة وللتوازن الروحي عند المصريين، يقتضي دراسات وجهود ثقافية بعيدة المدي وعلي مستويات متعددة، انني اعتبر صدور هذه المطبوعة الراقية المعنية بالمضمون الثقافي لمصر سواء في الماضي أو الحاضر خطوة هامة جداً علي هذا الطريق.


نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ١، ٢٠١٠

مواضيع:

التراث غير المادي

جمال الغيطاني

جمال الغيطاني

(1945-2015) روائى مصرى وكاتب قصة قصيرة وصحفى. له عدة روايات تاريخية ومقالات ثقافية وسياسية. ظل يشغل منصب رئيس تحرير المجلة الثقافية (أخبار الأدب) حتى وفاته.