جزيرة الأمل

مولد الحركة السريالية المصرية

كتابة فاتن مصطفى كنفاني

في نهاية ثلاثينيات القرن الماضى، تمردت مجموعة من المثقفين ذات فكر تقدمى على ما اعتبروه تراجع تدريجي لأمتهم نحو عادات اجتماعية مقيدة واستبدادية. ومن خلال تشكيل مجموعة ”الفن والحرية”، سعوا إلى تحرير الوعي المصري عن طريق الحرية الفنية وانتهاج العمل السياسي الراديكالى، ومن هنا ولدت الحركة السريالية المصرية.

“سأبدأ مع القرآن، الذي اعتبره المصدر التاريخي الأصيل والحقيقي، فأرى فيه الآيات التي تتحدى اليهود والنصارى ومشركي قريش، وكلها جماعات كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية، وأتساءل: لماذا لا أجد في الشعر الجاهلي وفترة ما قبل الإسلام أي إشارة إلى العادات الدينية لهؤلاء؟. فآيات القرآن تصف ردود أفعال معشر قريش ونزا عاتهم مع محمد، ولكننا لا نجد أثراً لهذا في الشعر الجاهلي! “

المقالات
الصور

التساؤل نفسه دار بخلد عميد الأدب العربي ورائد حركة الحداثة المصرية، طه حسين، الذي بدأ بحثه النقدي في المقارنة اللغوية بين القرآن والشعر الجاهلي، وخلص في النهاية إلى التشكيك في صحة الأخير. وأثار كتابه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي، الصادر في مارس 1926، غضب المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر). ومُنع الكتاب. وبعد إعلان توبته اُجبر طه حسين على الاستقالة من جامعة القاهرة، فكانت تلك ضربة كبيرة لحرية الفكر عكست التحولات الناشئة في الخطاب العام لإعادة تعريف الأمة المصرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

لم يكن الاقتباس من الغرب فيما يفيد المجتمع المصري – حتى عشرينيات القرن الماضي – شيئا مستنكراً بل على العكس كان الحكام والمحتلون والنخبة المثقفة يرون في ذلك إثراءًا ثقافياً وعلمياً للدولة المصرية يقودها للتقدم والترقي.

وفي نفس تلك الفترة، أدت الاكتشافات الأثرية للحضارة الفرعونية العظمية إلى افتخار المصريين بتراثهم وتاريخهم، الأمر الذي مهد الطريق لصحوة مصرية قومية ليبرالية.

وسرعان ما بدأ الفنانون الرواد من الجيل الأول في المساهمة في تلك الصحوة الثقافية الليبرالية، بهدف خلق هوية وطنية جديدة مستوحاة من الماضي المجيد، وذلك من خلال أعمال عديدة من الفنون التصويرية والتمثيلية، وكلها مهارات اكتسبوها وتدربوا عليها بواسطة أساتذة أوروبيين.

إلا أنه عقب النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى، تحولت مشاعر المصريين شيئاً فشيئاً بالسلب نحو الغرب عموماً والمحتل الأوروبي بشكل خاص، وتصاعدت نغمة المطالبة بمنح مصر استقلالها وأصبح الغرب المستنير يُنظر إليه باعتباره (لا إنساني). وكرد فعل تجاه ذلك، تحول كثير من المثقفين المدافعين عن فضائل تغريب المجتمع المصري في عشرينيات القرن الماضي إلى داعين لإحياء التراث العربي الإسلامي، باعتباره أكثر ملائمة للمصريين.

وعندما توفي سعد باشا زغلول عام 1927 – وكان رمزاً للوطنية المصرية، عارضت مجلة “السياسة” الأسبوعية بناء قبر فرعوني الطراز له بداخل مسجد، على اعتبار أن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية. كما كان أيضاً لتأسيس حسن البنا لجماعة الإخوان المسلمين، عام 1928، ثم وفاة الفنان محمود مختار ذو النزعة القومية أثراً سلبياً على الحركة الليبرالية المصرية.

وتحولت الهوية الجمعية لمصر – لأغراض سياسية بالأساس – بعيداً عن الحداثة الغربية نحو اعتبار القاهرة عاصمة للعالم العربي الإسلامي. فى ذلك الوقت، كان النازيون قد استولوا على اكثر من خمسة الاف عمل فنى من المتاحف والمجموعات الخاصة التى اعتبروها منحطة وملوثة بالتأثير اليهودى ومعاديه للروح الألمانية. وقد ادان الأديب الفرنسى اندريه بريتون (ابو السيريالية ورائد الحركة الإشتراكية الثقافية العالمية)، والفنان المكسيكى دييجو ريفيرا، والثائر المنفى ليون تروتسكى تلك الأعمال البربرية للنازى، ودعوا لثورة ثقافية لإنقاذ العالم من الفاشية والنازية التى بدأت فى تقييد الإنتاج الفنى والإبداعى.

في الوقت نفسه، كانت أكاديمية الفنون الجميلة التي كان قد مر على تأسيسها فى مصر ثلاثة عقود آنذاك، تبدي سلبية وتهاوناً تجاه التغيرات التي طرأت على الحركة الفنية الغربية وغير مبالية بالاضطراب الفني العالمي الذي حدث على إثر ظهور الفاشية والنازية.

أما وراء الكواليس، أخذ جيل طليعي من المحرضين في التشكل، وقد جاءوا من خلفيات اجتماعية متنوعة، وأرادوا التصدي للأمراض الاجتماعية التي كانت تعاني منها مصر، وعلى رأسها الظلم الاجتماعي. وكان أبرز هؤلاء وأكثرهم تأثيرًا جماعة أطلقت على نفسها اسم “جماعة الفن والحرية”، تأسست رسمياً عام 1939.

حاول هؤلاء الشباب التوصل إلى حلول يمكن أن تستفيد منها البلاد، وكانوا يرون أن التخلي عن الفكر الغربي، وبزوغ فكر التدين والتقديس بدلاً منه، لا يمثل حلاً يقود مصر إلى التنمية بل شراكاً مقيداً لها. وكانوا يشددون على أنه لتحقيق الرخاء والعدالة تحتاج مصر والمصريون إلى الانفتاح على العالم الخارجي وإلى التحرر من كافة التقاليد المقيدة والاستبداد وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وكانوا يؤمنون أن “الفن الحر المطلق” بالتنسيق مع العمل السياسي الراديكالي، هو السبيل الوحيد لتغيير النظام الاجتماعي القائم. وهذا يعني أن الفن لم يعد في نظرهم مجرد تزييناً للجدران والقصور، ولا يجب أن يكون خاضعاً لأوامر المؤسسة الدينية أو الدولة أو مقصوراً على عصر ما أو مكان ما، بل يجب أن يكون معبراً عن مظاهر البؤس والمعاناة التي يتحملها البشر، متطلعاً لإحداث تغيير جذري في المجتمع.

وفي 22 ديسمبر 1938، قدمت جماعة “الفن والحرية” لأول مرة في مصر الفن السريالي، وهو حركة طليعية عالمية ذات طابع اجتماعي وثقافي. كان ذلك عن طريق توزيع بيان باللغتين العربية والفرنسية، في شوارع القاهرة، بعنوان “يحيا الفن المنحط”. وقع على البيان 31 من المثقفين المصريين والأجانبن ودعوا من خلاله الشباب إلى التمرد ضد جميع التقاليد المستقرة في المجتمع، ودعوا للحرية الفنية المطلقة.

كانت تلك الدعوى لثورة ثقافية جذرية، لا تعرف أمة ولا دين، هي إحدى بنات أفكار جورج حنين

(1914-1973)، والمعروف بأبي السيريالية المصرية أو “الطفل الرهيب. نشأ جورج حنين في أسرة إقطاعية مسيحية، لأب دبلوماسي، وكان يجيد التحدث بأربع لغات. كان أيضاً يحيط نفسه بأناس يشبهونه، من حيث عدم الالتزام بالتقاليد الجامدة، إلا أنهم كانوا ذوي أصول أكثر تواضعاً منه، ومنهم رمسيس يونان المعروف بنظرته المستقبلية الثاقبة والفنان كامل التلمساني والأخوين أنور وفؤاد كامل، كانوا جميعاً يختلطون نهاراً بالبروليتاريا، بينما يخالطون الطبقة الارستقراطية في المساء.

وعندما بدأ أعضاء جماعة “الفن والحرية” في الكشف عن الأفكار التي يؤمنون بها، وأخذوا يهاجمون صراحة كل القيم المجتمعية الراسخة وينتقدونها، نشب شعور عدائي بينهم وبين البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة بهم. ففي تلك الأيام كانت مهاجمة السلطة عملاً عدائياً منكراً قد يعرض صاحبه للسجن. ومع أن جماعة الفن والحرية لم تتمدد، إلا أنهم توحدوا حول اعتناق أيدولوجية اجتماعية متماسكة حقيقية وحركة فنية جديدة، كانوا أقوياء واصحاب إرادة حقيقية قادرة على التأثير في المجتمع.

قامت الجماعة حتى عام 1947 برعاية معارض كبرى، وترجموا أعمال رايمبو وكامو وكافكا إلى العربية، وقاموا بطباعة دوريات مثيرة للجدل لنشر الرسالة التحررية للسيريالية موضحين أسلوبها الفني غير التقليدي الذي يسمح لخيال الرسام بقلب الأمور رأساً على عقب كناية عن رأيه في المجتمع ككل، كأن يرسم ملامحاً مشوهة أو نسب جسم غير واقعية تعبيراً عن العذاب النفسي، فأصبحت تلك الرموز هي السمات المميزة لأعمال رسامي السيريالية.

بين عامي 1940 و1945 أقامت جماعة “الفن والحرية” خمسة معارض فنية، غلب عليها طابع الاستفزاز وجاءت جميعها تحت شعار واحد هو “معرض الفن الحر”. نفذت الأعمال بوسائط ومواد مختلفة، على يد فنانين مصريين وأجانب، من الجنسين، ومن طبقات اجتماعية وخلفيات دينية متنوعة.

وقد قاموا بطبع كتيبات خاصة لكل معرض، باللغة العربية وأخرى أجنبية، لنشر رسالة المعرض وحتى لا تقتصر على الطبقة البورجوازية وحدها. كانت مفاهيم أعمالهم التي تستند إلى نظريات فرويد عن اللاوعي، متناقضة مع السيل المروع من الأعمال الأكاديمية التقليدية والفكر المتبلد السائد في ذلك الوقت والتي كانت تعرض في صالون القاهرة السنوي، والتي وصفوها بأنها سطحية وغير صادقة، ولا تتناسب مع الحقيقة القاسية للمجتمع المصري.

استخدم هؤلاء الفنانين سلاح الفن لفضح بشاعة المجتمع، فاتسمت أعمالهم بالتناقض الصارخ مع المعايير الجمالية التي تبناها الجيل الأول من الفنانين واعتادتها النخبة المصرية، وهو ما عبر عنه كامل التلمساني في إحدى مقالاته قائلاً: “لن يكون الفن مجرد أداة متعة تجلب السعادة لأناس عقولهم خاملة… إن الابتهاج بعيد كل البعد عن الإنسانية وعن الحياة التي تتحطم كل يوم”. كما أثارت نشرتهم الشهرية بالعربية “التطور”، ذات الميول اليسارية المتشددة والتي يغلب عليها الفكر الماركسي، استياء وحنق الأوساط الثقافية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى توقفها عن الصدور.

في ضوء تغير الخطاب الفكري المصري والحياة العامة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أثار كشف الحقيقة الاجتماعية البشعة والمطالبة بمسايرة مصر للتوجه العالمي غضباً شعبياً عارماً. فأيدولوجية جماعة الفن الحر التي عفا عليها الزمن والتي نشأت من رحم حركات بلا روح مثل الفكر الاشتراكي العربي والحركات الفنية الطليعية، اصطدمت بالفكر المحافظ السائد وبالفنون الجميلة الوليدة في مطلع القرن العشرين في مصر. لذا انفض الصحفيون والمثقفون عن المعارض، مفضلين الفوضى والصدام على غزو الثقافة السريالية الأوروبية التي اعتبروها تهديداً للهوية المصرية.

وبحلول عام 1945 أقيم المعرض الخامس لجماعة “الفن والحرية” ولم يشارك فيه سوى 30 فنانا فقط، إشارة إلى أن عهد السريالية المصرية قد انتهى، إذ كان ينظر للجماعة وقتها كتهديد للأمن القومي، وتم حلها بواسطة الشرطة المصرية وسلطة الاحتلال الانجليزي. بعدها بعام واحد دخل رمسيس يونان السجن لفترة وجيزة.

منذ سبعين عاماً مضت، جسدت جماعة الفن والحرية “جزيرة أمل” في بلد يعاني من أزمة توجه، ممزق بين القومية والحداثة. أزعجت الكثيرين بفكرها التقدمي الذي طرحته كوسيلة للخروج من المتاهة السياسية والأخلاقية والروحية التي انحصرت فيها مصر.

ربما لم تنجح الجماعة في تحرير مصر، فقد كانت حركة للجماهير محرومة من الجماهير، ولكنها نجحت بالتأكيد في توجيه ضربة قاضية للفكر الأكاديمي الجامد، ومهدت السريالية الطريق لانخراط الفن في المجتمع تعبيراً عنه، بعيداً عن الجماليات الفارغة، ويظهر ذلك بوضوح في التطور المذهل الذي نراه في أعمال الجيل الثالث للفن المصري الحديث.

وخلافاً لمسألة غياب جماعة “الفن والحرية” والاعتقاد اليوم بأن مسعاهم كان هزيلاً، يمكننا القول إن كتاباتهم النقدية هي بمثابة مرجعية خالدة، تستمد أهميتها من المناخ الإجتماعى والسياسي السائد اليوم… لكن من المقلق أن جماعة “الفن والحرية” لم تلفت نظر قطاع عريض من المصريين المثقفين والفنانين والثوار.

ربما لو كان شباب ميدان التحرير في عام 2011 قد قرأوا واستوعبوا تجربة جماعة “الفن والحرية”، لكانوا قد تعلموا منهم أشياءاً كثيرة تساعدهم في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية التي طالبوا بها خلال ثورتهم… وربما لو كانوا نجحوا حينها لكانوا حطموا نظرية كارل ماركس القائلة: “التاريخ يعيد نفسه، أولاً كمأساة بعد ذلك كمهزلة”.


نُشر هذا المقال سابقاً في النسخة المطبوعة لمجلة راوي فى العدد ٨، ٢٠١٦

مواضيع:

الفن الحديث

جماعة الفن والحرية ، فى افتتاح اول معرض جماعى لهم عام 1940. فى الصف الأمامي: سانتيني ، كامل التلمسانى ، انجيلو دي ريز (فى البرواز)، شخص غير معروف،رمسيس يونان وفؤاد كامل الصف الخلفي: ألبير قصيري ، موريس فامى ، راؤول كورييل ، جورج حنين (أطولهم يرتدى نظارات )

رمسيس يونان، بدون عنوان ، 1943، زيت على قماش، 60 × 85 سم، تصوير نبيل بطرس/ معهد العالم العربى لوحة مؤثرة أخرى فكرتها الأساسية مبنية على نظريات فرويد عن العقل الباطن، وكانت بمثابة صرخة قويه ضد الأكاديمية التقليدية السائدة آنذاك. يونان يظهر هنا، ثلاث نساء، ربما نفس المرأه، فى حالات مختلفة من الألم. المرأةجالسه، واقفة، او ممددة على الأرض، تظهر فى شكل مشوه،عاجز، يبدو عليها الألم النفسى، مسجونة فى زنزانة كالقبر، الا ان بها نافذة صغيرة على العالم الخارجى، يشع منها ضوء ازرق يعبر عن الأمل. الحداد واليأس الإجتماعى السائد فى تلك الفتره يتضحان من خلال عذابها النفسى.

انجى افلاطون (1924-1989)، بدون عنوان ، 1942،زيت على قماش،60 × 80.2cm .الصورة: كريستيز | الفتاة الأرستقراطية البالغة من العمر 18 عاماً تصبح تلميذة لكامل التلمسانى وتظهر مهارات غير عادية مدفوعة بميلها للتمرد ولهذا لقبت بالثائرة. شاركت فى معرضين لجماعة الفن والحرية. لم تدم مرحلة السيريالية لديها طويلاً، وكانت ترتكز على المساحات الفارغة والبحث عن المجهول.

رمسيس يونان، الطبيعة تعشق الفراغ، 1944، زيت على قماش، 47 × 47 سم ، تصوير نبيل بطرس| متحف الفن المصرى الحديث| الفراغ والمجهول كانا موضوعين رئيسيين ايضاً فى كتابات ولوحات يونان. فى هذا العمل الأيقونى، يبدو الإنسان ضائعاً فى المجهول، ومسيطراً عليه فى نفس الوقت. "احب ان يتمدد الفراغ، ان يتواصل. احب ان اخرق الفراغ، وان اخترقه." (1947)

فاتن مصطفى كنفاني

فاتن مصطفى كنفاني

أسست جاليري (آرت توكس – مصر) ساحة فنية مخصصة لإدارة أعمال بعض الفنانين المصريين بالإضافة إلى تقديم خدمات المعارض والنشر والتعليم والأرشفة. تعمل حالياً على إصدار كتابها الأول عن التفاعل بين السياسة والفنون البصرية بمصر فى النصف الأول من القرن العشرين.