رائدة الزي الشعبي
بهجة اكتشاف الحياة العادية
كتابة عزة فهمي
قصة حياة رعاية النمر التي كرست حياتها لتوثيق الأزياء الإقليمية والتقليدية في مصر.
تعرفتُ على رعاية النمر أوائل سبعينيات القرن الماضي، كانتْ ترتدي ثوبا من سيناء مع شال فلاحي حينما رأيتها للمرة الأولى، أما في الثانية فكانت ترتدي جلابية فلاحي بألوانِ متناسقة وزخارف مميزة، لفتت نظري هذه السيدة الجميلة الذكية، خفيفة الظل مما جعلني أتسائل عن هذا النموذج الفريد الذي لم أره من قبل في السيدات المصريات.
عملت رعاية في الصحافة بقسم الجرافيك مع أستاذها عبد السلام الشريف، وكان لهذه المهنة تحديدا الفضل في لقاء رعاية بشريك دربها الفنان عبد الغني أبو العينين فنان الجرافيك الشهير الذي عمل في مدرسة روزاليوسف الصحفية متدربًا على يد فاطمة اليوسف، وإحسان عبد القدوس، وأحمد بهاء الدين، فقد عمل الشريكان معا في مجلة الإذاعة والتلفزيون وتزوجا عام 1963.
توطدت علاقتنا وصرت أُدعى إلى منزل رعاية النمر وزوجها الفنان عبد الغني أبو العينين بالحرانية في الأعياد وبعض أيام الجمع. كان جزء من ذلك المنزل متحفا صممه المعماري رمسيس ويصا واصف، وهناك التقيت بنخبة المجتمع المبدع من المثقفين والرسامين والشعراء والصحفيين منهم على سبيل المثال أحمد بهاء الدين وزوجته ديزي، راجي عنايت وزوجته الفنانة شويكار، صلاح جاهين، سيد مكاوي، أحمد فؤاد.
"هناك من الأدلة والبراهين الحاسمة التي تؤكد على سهولة كتابة تاريخ الزي المصري كاملا لكن كل هذه الأدلة وعلى الرغم من وفرتها وإخلاصها بدقة للتفاصيل لا تستطيع أن تروي القصة كاملة. "إليزابيث ريفستال وسوزان تشابمان من دراسة "ملاحظات عن الموضة المصرية القديمة" بمتحف الفنون الجميلة في بوسطن.
ولأن قوة البراهين والأدلة الحاسمة ليس في استطاعتها أن تروي القصة الكاملة فإنني هنا سأبذل قصارى جهدي لروايتها كاملة ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فرعاية النمر تلك الصديقة والفنانة الرائدة لم تُنصف في حياتها، ولم يُكشف عن دورها الطليعي الداعم والكبير في مساندة شريك عمرها عبد الغني أبو العينين، المستحق لقب فنان الشعب بجدارة لأنه مَن أزال الركام عن تراث الشعب وإبداعاته الحية ورفعه إلى مصاف الفنون الراقية.
رعاية ... العابرة للطبقات
"ثمة حدود في البنية الاجتماعية -الاقتصادية -السياسية لمجتمعنا تجعل المشاركة مستحيلة أو شبه مستحيلة، لأننا كبشر يتم تصنيفنا في اتجاهات مختلفة، إننا أعداء قبل أن نلتقي إننا متباعدون بحيث لا يعرف أحدنا الآخر حتى كإنسان." العالم النفسي رونالد دافيد لانج من كتاب "الحكمة والجنون والحماقة".
على الرغم من قسوة المقولة السابقة وصدقيتها إلا أن جزءً لا يستهان به من ريادة الفنانة رعاية النمر كان يكمن في قدرتها على كسر العزلة بين البنى الاجتماعية بحيث جعلت المشاركة المستحيلة أكثر من ممكنة، جعلتها قائمة فعليا فلم نعد أعداءً ولا متباعدين. كانت رعاية النمر المولودة في ثلاثينيات القرن الماضي تنتمي لأسرة برجوازية مصرية تركية، وتخرجت في معهد التربية الفنية مع زميلتيها في ذلك الوقت الفنانة شويكار عكاشة زوجة الكاتب راجي عنايت وفنانة العرائس بدر حمادة زوجة فنان الكاريكاتير بهجت عثمان.
لم تُشكل الأصول الطبقية لرعاية عائقا، ولا جعلتها تخضع للحدود الحاسمة للبنية الاجتماعية فقد كسرتْ هذه الحدود بمهارة نوعية فائقة وبحرفية المثقف الطليعي وسلاسة الأداء الأنثوي المبدع دونما صخب فكانتْ أول من اهتم بالزي الشعبي في كل مصر وبامتداد محافظاتها وأرجائها وقد أخذ هذا الاهتمام أشكالا عدة:
-جعلت رعاية من الجلابية الفلاحي والتوب بمختلف أشكاله زيًا عصريًا ترتديه سيدات وبنات الطبقة المثقفة، وبدأت بنفسها حيث جعلت منه زيًا دائمًا، جميلًا تلبسه طوال الوقت وفي كل المناسبات، الأمر الذي لفت النظر لهذه الأزياء الشعبية ووضعها في دائرة ضوء الأناقة العصرية فأصبح ارتداء هذه الأزياء الشعبية منافسًا قادرًا على الصمود أمام المستورد من الملابس ليثبت أن لدينا كنوزًا تراثية مميزة رغم أنها كانت قبل جهود رعاية خارج مجال الرؤية متروكة للنسيان، فقد أثرت هذه الإنسانة الرائعة في مجموعة كبيرة في محيط الأصدقاء للتطوير والعمل على الزي التقليدي منهم سامية هجرس، وشمس الأتربي،وشهيرة محرز.
-تخطت "رعاية" مرحلة الاهتمام والدعاية الشخصية للزي التراثي الفلاحي لتقوم بدور أوسع وأبقى وهو أن تقوم بجمع منظم وممنهج لأعداد كبيرة من هذه "الأتواب" من كافة المحافظات المصرية. إلى جانب ذلك شرحت وتحدثت عن "توب" كل محافظة وخصائصه وموتيفاته وخاماته دون أن تنتظر قيام الهيئات الثقافية بهذا الدور وقد كانت هذه الهيئات والمؤسسات أولى به نظرا للإمكانيات الكبيرة التي تملكها.
لم تنتظر رعاية العون ولا المساعدة وقامت طواعية مع زوجها أبو العينين بهذه المهمة عن طيب خاطر وبمجهود فردي وشخصي لكنها تمنت طيلة حياتها أن تتبنى الدولة مشروعها حتى أنها حولت جزءً من منزلها في ضاحية الحرانية إلى متحف للفن الشعبي، لم تقتصر رحلاتها على جمع الأزياء فقط لكنها اهتمت بكل التراث الشعبي سواء الخاص بالأدوات المنزلية أو المتعلق بالإنسان نفسه فجمعت الكثير من الحلي الشعبي ووضعتها داخل متحفها المنزلي الصغير مساحة والكبير عمقًا ودورًا.
-كان اهتمامها بالجلابية الفلاحي كبيرا خاصة وأنها ابنة محافظة الشرقية، ويخطئ من يظن أن عمل رعاية ورحلاتها كان يقتصر على جمع التراث وتصنيفه وتقديم شروحات عنه، لأن هذه السيدة المثقفة المشعة كانت لديها قدرة غير عادية على التعامل مع كل أنواع البشر مهما بلغت بساطتهم، فاستطاعت أن تراهم، وأن تدركهم وبالتالي أدخلتهم دوائر الوعي لدى طبقات كان هؤلاء البسطاء يقبعون لديهم في دائرة "غير المرئيين" أحيانا و"المسكوت عنهم" أحيانا أخرى.
تواصلت رعاية مع الفلاحات من بنات قريتها وقامت بتشجعيهن على عمل هذه الجلاليب بعد إدخال بعض التعديلات والتطويرات غير المخلة عليها كأن تختار ألوان أقمشة مبهجة وتكملها بألوان مناسبة لعمل الحليات على الجلابية.
وأجرتْ تعديلا بسيطا على طول الجلابية، فقامت بتقصيرها تقصيرا بسيطا غير مخل لتناسب الحياة العصرية لذا أمكن ارتداء الجلابية الفلاحي بشكل حديث وعصري دون أن تشكل عائقا للحركة مما تمخض عنه الحفاظ على هذه الفنون الشعبية من الاندثار.
جلابيتي المطورة
بالنسبة إلى تجربتي الشخصية مع رعاية وجلاليبها، فقد كنتُ دائمة السؤال عن أثوابها الفلاحي الرائعة التي أخذتُ منها أروع أشكال الجلابية بألوانها الجديدة الحية مما أعطى أثوابها طابعًا جميلًا رائعًا، وظللت سنوات طويلة أصنع ما علمتني إياه رعاية وأعني الجلابية الفلاحي المطورة، وقد دلتني رعاية أنا وشهيرة محرز على خياطات الدلتا الماهرات وكذلك على خياطات في مناطق مختلفة مثل الشرقية وطنطا وغيرها.
وصرتُ أصنع جلاليبي لمدة سنوات طويلة في محافظة البحيرة حيث كانت لنا هناك قطعة أرض يزرعها أخي، كنت أصنعها لي ولأصدقائي المقربين كعطيات الأبنودي، بل وأقدم هدايا منها لأصدقائي وأصدقاء أصدقائي، كذلك دلتني رعاية على خياطات أبو رواش المشهورات بشغل الخرز وبمرور الوقت أقتنيتُ مجموعات كبيرة من إبداعاتهن.
صرتُ ألبس هذا الزي بعد أن أختار له ألوانا متناسقة، وكانت الأقمشة في الغالب من القطن صيفا ومن القطيفة شتاءً وله شخصية مصرية لطيفة ومتميزة.
كنتُ مولعة بزيارة متحف الحرانية لأنني كنت أرى جديدا كلما ذهبت إلى هناك.. بابور الجاز ... إبرة تسليك البابور ... اليشمك ... أثواب الصحراء والواحات ... أباريق الشاي والصينية فى الريف ... لمبة الجاز ... وكان يطلق عليه عن جدارة "متحف الإنسان".
ليست حياة عادية
فضلتْ "رعاية" أن تنقل نشاطها من الصحافة إلى الفنون الشعبية فعُينت بمركز الفنون الشعبية حيث كانت مسؤولة عن إعداد متحف الفنون الشعبية بالمركز الذي كان زوجها مديره آنذاك ثم انتقلت إلى الثقافة الجماهيرية التي أسسها سعد كامل وأصبحت مديرة لقصر ثقافة الجيزة ومشرفة على أول مركز ثقافي في قرية كفر الشرفا في محافظة القليوبية.
رغم كل هذه الأعباء الوظيفية ظلت رعاية النمر الداعمة والمساعدة الأولى لزوجها، سواء كفنان تشكيلي أو في عمله كمصمم للأزياء الشعبية للفرقة القومية للفنون الشعبية. وهي المرة الأولى التي يرتدي فيها راقصو وراقصات الفرقة القومية أزياء مدروسة ومؤصلة تاريخيًا وجغرافيًا في لوحات راقصة ممثلة للمكان الذي تعبر عنه الرقصة، إلى جانب التطوير المسرحي للألوان والإكسسوارات حيث تجلت موهبة أبو العينين الفريدة في تصميم الأزياء بإصراره على إعادة بناء الكلمة والخط والصورة وتسخير الظل والنور بوعي سابق لأوانه مما شكل نقلة نوعية في أداء الفرقة القومية للفنون الشعبية.
قام الشريكان بتكوين النواة الأولى لمتحف الإنسان في مصر بمنزلهم بالحرانية عن طريق اقتناء تحف من التراث الحرفي شكلتْ أكبر مجموعة متحفية خاصة بالتراث ليس من مصر فقط، ولكن من مختلف الدول العربية والأجنبية. فقد طافت رعاية مع رفيق حياتها معظم أنحاء مصر ... محافظاتها، مدنها، قراها، وواحاتها وكذلك معظم البلاد العربية والأوروبية، المغرب، الجزائر، تونس، سوريا، لبنان، العراق، الأردن، الكويت، اليمن، وقام الزوجان بتأسيس "متحف البيت السيوي" الشهير بدعم من المعونة الكندية.
بالتوازي مع ما سبق جمعت رعاية الكرادين، والحلي والذهب الفلاحي ومثلما هو الحال مع الجلابية والزي التقليدي، كان الحال مع الكرادين الفلاحي فقد أصبحت هي الأخرى إلى جانب الجلابية موضة لدى سيدات الطبقة المثقفة الباحثات عن الأصالة والتراث والتفرد.
رحل الشريك عبد الغني أبو العينين عن دنيانا في الخامس عشر من أبريل عام 1998 وظلت رعاية بعد رحيل زوجها وبإصرار فذ سبع سنوات تقوم بنفس المجهود والأداء وتحي أفكاره وذكراه وتحفظها حية لا تموت بكل السبل الممكنة، وقد اضطرت فيما بعد لبيع بعض من لوحات زوجها، وهو الأمر الذي طالما رفضته في الماضي حتى ولو كان اسكتش صغير من اسكتشاته، وذلك كي تستطيع أن تتوسع في جمع الكرادين والذهب الفلاحي حيث لم تسمح لها حالتها المادية آنذاك بهذا التوسع.
وإذا كانت جداريات المعابد المصرية تصور المصريين بلباس الأعياد التي كانوا يطمحون إلى ارتدائها في الأبدية بدلا من لباسهم المعتاد فإن مجموعة رعاية النمر وعبد الغني أبو العينين المكونة من 650 قطعة فنية من لوحات أبو العينين ومن مقتنياتهما معا، والمهداة إلى مكتبة الإسكندرية رصدت، ووثقت تفاصيل الحياة المعيشية الواقعية لملايين البشر الحقيقين كما هم وبعيون محبة ومتعاطفة هي عيون النمر وأبو العينين. قامت مكتبة الإسكندرية بعمل ركن ثابت للمجموعة يحمل اسم هذين الفنانين اللذين كرسا حياتيهما في حب هذا الشعب وفنه وتراثه. تحقق الحلم متأخرا للأسف، ولكن أن تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي أبدا.

رعاية النمر بريشة زوجها الفنان عبد الغني أبو العينين الذي تشكل أعماله جزءًا من المعرض الدائم بمكتبة الإسكندرية.

فستان يشبه الطراز الفلاحي (مثل جلاليب وجه بحري)، ولكن بأكمام على شكل جرس وكشكشة غير تقليدية. ربمًا تكون رعاية قد طلبت تفصيله خصيصًا لها.

جانب من متحف رعاية النمر بمكتبة الأسكندرية.
© جميع الصور من معرض رعاية النمر وعبد الغني أبو العينين الدائم بمكتبة الإسكندرية. تصوير هشام سلامة