موضة ملكية
الجزء الثاني: ترميم ملابس توت عنخ آمون
كتابة جيليان فوجلسانج-ايستوود
العدد ١١
ترجمة نوران إبراهيم
على الرغم من أن فترة حكم توت عنخ آمون كانت قصيرة واتسمت بالاضطرابات، وتوفي شابًا، إلا أن مقبرته ضمت ثروات لا مثيل لها. وبالنظر إلى المنسوجات والملابس شديدة الفخامة التي خلفها وراءه، لا يسعنا سوى أن نحلق بخيالنا لنتصور ما كانت عليه خزانات الملابس الباذخة للملوك الأهم.
في عام 1323 ق.م.، توفي ملك مصري شاب ودُفن مع المئات من أغراضه حتى تكون حياته في العالم الآخر مريحة ومليئة بالأشياء المألوفة والضرورية. على مدى الألفية التالية، طوى النسيان اسم هذا الملك الشاب، حتى حان اليوم المصيري في عام 1922 الذي اكتشف فيه عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر مقبرته، وبقية القصة يعرفها الجميع.
يشتهر اسم توت عنخ آمون الآن في جميع أنحاء العالم ويستدعي للذهن على الفور صورًا لأقنعة وعربات وصناديق جميلة عليها صور مطعمة للملك الشاب وزوجته، كلها من الذهب. ولكن ما لا يُعرف بنفس القدر هو أن المقبرة احتوت أيضًا على أكثر من أربعمائة قطعة من المنسوجات والملابس الكتانية، كان الملك نفسه يرتدي الكثير منها.
في أوائل التسعينات من القرن الماضي، أعادت عالمة آثار النسيج، د. جيليان فوجلسانج-إيستوود ، اكتشاف منسوجات توت عنخ آمون في متحف القاهرة. كانت معظم المجموعة في نفس الصناديق التي أعاد هوارد كارتر المنسوجات إليها مرة أخرى في عام 1922. حتى أن أحد الصناديق احتوى على نسخة من صحيفة الإجيبشيان جازيت يعود تاريخها إلى ما بعد اكتشاف المقبرة بستة أسابيع وحسب!
عُثر على المنسوجات والملابس في أجزاء مختلفة من مقبرة توت عنخ آمون، ولكن معظمها كان في الخزائن، حيث خُزنت في بعض الصناديق العديدة الموجودة في المقبرة، بالإضافة إلى ما أُسدل على التماثيل والتماثيل الصغيرة. على مر القرون، تسربت المياه إلى المقبرة، مما أدى إلى إتلاف بعض المنسوجات. أما تلك التي كانت في أجزاء المقبرة التي لم تمسها المياه فاحتفظت بحالتها الأصلية تقريبًا. كما أن المقبرة قد نُهبت مرتين على الأقل. وعلى ما يبدو فإن اللصوص لم يأخذوا الملابس الفاخرة حيث كان سيصعب بيعها في سوق الملابس المستعملة. يبدو أنهم أخذوا المنسوجات البسيطة فقط لأنه لم يعثر، على سبيل المثال، على ملاءات على الأسرة، كما هو الحال في المقابر الأخرى حال اكتشافها. ولم يُعثر على الكثير من الشالات، وهي من قطع الملابس التي من المعروف أن الملك قد ارتداها وذلك من خلال العديد من جداريات المقبرة والصور على الأغراض المختلفة.
في مصر القديمة، كانت المكانة تظهر من خلال جودة القماش الذي ترتديه، وكميته، ووجود اللون. التاجر، على سبيل المثال، قد يكون لديه بعض الخطوط الرفيعة باللونين الأحمر والأزرق على حواف ثوبه. امتلأت مقبرة توت عنخ آمون بقماش الكتان فائق النعومة، وكانت بعض القطع مزينة بالخرز والخيوط المصبوغة الملونة.
تضمنت مجموعة الملابس الموجودة في مقبرة توت عنخ آمون قطع أساسية مثل الملابس الداخلية (كان هناك أكثر من 100 مئزر) والزنانير والشالات وأغطية الرأس الملكية، بالإضافة إلى سترات من مختلف الأنواع والأحجام.
الملاحظ هو وجود ملابس بمقاسات مختلفة في المقبرة. بعض القطع تناسب طفل صغير، والبعض الآخر مناسب لمراهق. ولكن معظم الثياب كانت لشخص بالغ. اشتملت أصغر الثياب على مئزر وسترة كثيفة الزخرفة وزنار منسوج وجلدة فهد كهنوتية بمقاس صغير، وكلها صنعت للملك عندما كان يبلغ من العمر ثماني أو تسع سنوات. جلدة الفهد (ذات المقاس الصغير) مصنوعة من الكتان المطرز وتتضمن نقشًا للاسم الملكي، لذلك لابد وأنه كان يرتديها بعدما أصبح ملكًا بالفعل. قد يدعونا ذلك إلى الاعتقاد بأن هذه الثياب الثلاثة قد حوفظ عليها لأنها كانت الملابس التي ارتداها الملك خلال الطقوس المختلفة المرتبطة باعتلائه عرش مصر.تشكل مجموعة أخرى من الملابس زيًا يتكون من سترة وشال ودثار للأرداف بشرائط حمراء. يشير حجم هذه القطع إلى أنها صنعت لصبي يتراوح عمره بين 12 و14 عامًا. من الواضح أيضًا أنها صنعت خصيصًا لتوت عنخ آمون، حيث إن القطعة الرئيسية هي سترة بأكمام مطرز على مقدمتها اسمه. يمكن أيضًا رؤية اسمه بداخل 26 خرطوشًا مدمجًا في الطوق المنسوج والمخيط حول فتحة العنق. ومن المثير للاهتمام أن هذه الملابس ليست مصرية الأصل. فالسترة الأساسية، على سبيل المثال، قُصت وخيطت بطريقة مختلفة تمامًا عن الأشكال المصرية المعهودة. كما زينت بمزيج من الأشرطة المنسوجة والتطريز مما لا مثيل له في الملابس المعثور عليها في مصر. من خلال النظر إلى جداريات المقابر المعاصرة المختلفة، يبدو أن هذه الملابس كانت من النوع الذي ارتداه شعب ميتاني (شعب كان يعيش في ما هو الآن شمال سوريا)، لكننا لا نعرف ما إذا كان الميتانيون قد صنعوها وأرسلوها لمصر أو صنعها الحرفيون الميتانيون الذين كانوا يعيشون في مصر نفسها. وفي جميع الأحوال، يبدو أن هذه كانت هدية دبلوماسية باهظة الثمن، أهديت طواعية – أو غير ذلك، من بلاط ملكي إلى آخر.
بحلول الوقت الذي أصبح فيه توت عنخ آمون بالغًا، كانت خزانة ملابسه تعكس الوظائف العديدة التي استتبعها منصبه. فقد كان حاكمًا وكاهنًا وقائدًا للعربات الحربية وصيادًا ورب أسرة. هناك أمثلة لأنواع مختلفة من الملابس التي تعكس هذه الأدوار. على سبيل المثال، هناك سترة منسوجة بدقة باللون الأزرق الداكن ومزينة بأشكال الأزهار والبط المنمنمة. حول العنق يوجد صقر (كان الملك هو المعبود الصقر حورس، وكان حورس هو الملك). وبالنظر إلى أنه كلما زاد اللون في ملابس الشخص ارتفعت مكانته، سيكون من الصعب الحصول على مثال أكثر وضوحًا لعلو المكانة من هذه السترة التي تكفي بغزارة ألوانها وزخرفتها المبهرجة للتعبير عن أن من يرتديها هو الملك ولا أحد غيره.
كما يوجد أيضًا زنار منسوج وملون يؤكد بشكل أكبر على الطبيعة الملكية لهذه الملابس وغيرها مما عثر عليه في المقبرة. صنع الزنار من حزام خصر بالمقاس تتصل به أربعة شرائط حمراء طويلة. يتضمن الحزام صورًا لأجنحة الصقر (رمز آخر للمعبود حورس) تحيط بخصر الملك. يظهر خرطوش كبير يحمل اسم الملك بشكل بارز على الجزء الذي كان يغطي ظهره من الزنار.
من أجل التأكيد على مكانته الملكية، دُفن توت عنخ آمون أيضًا بكامل ملابسه، التي كانت على الأرجح تتألف من سترة وزنانير وشالات، وبالطبع النِمِس (غطاء الرأس الملكي)، الذي صمد جزء منه بالفعل وسجل في الصور التي التقطت في أثناء استخراج التابوت في عشرينات القرن الماضي. يظهر هذا النوع من أغطية الرأس في اللوحات والتماثيل وعلى الأغراض الأخرى على هيئة قطعة من القماش المخطط باللونين الأزرق والأبيض مع "ذيل" من القماش المربوط يتدلى على ظهر مرتديها. ومن المدهش أن الذيل بقي في مكانه خلف رقبة توت عنخ آمون مع بقايا من الكتان يبدو أنها احتوت على خطوط زرقاء وبيضاء وربما بعض الخطوط الذهبية لتضيف إلى جلال المشهد. وعلى كلٍ، لابد وأن غطاء الرأس الأصلي كان مشابهًا للقناع الذهبي الشهير ذي غطاء الرأس الأزرق والذهبي الذي عثر عليه مغطيًا لرأس الملك والنِمِس الحقيقي.
كما عثر في مقبرة توت عنخ آمون على سترتين تغطي كل منهما شبكة متداخلة من الخرز المطرز والمطعم بأقراص ذهبية. ومن المثير للاهتمام أن الخرز مطرز فقط في الجزء الأمامي من كلا السترتين، مما يشير إلى أنهما ربما كانتا ترتديان خلال طقوس مهمة بينما يكون الملك جالسًا بحيث لا يظهر منهما إلا الجزء الأمامي. زينت سترات أخرى عثر عليها في المقبرة بخطوط منسوجة باللونين الأحمر والأزرق على خلفية بيضاء، وتتميز بصبغة الملابس التي ترتدى في المناسبات الأقل رسمية، ربما عندما كان توت عنخ آمون يمارس دوره كـ"رب أسرة".
ينعكس دور توت عنخ آمون ككاهن في وجود ثلاثة جلود فهد في القبر. اثنان منها حقيقيان، والثالث هو المثال الصغير المطرز المذكور آنفًا. كان الملك يستخدمها جميعًا عند أداء طقوس كهنوتية مختلفة، بما في ذلك تلك المرتبطة بالممارسات والطقوس الجنائزية. مجموعة أخرى من الملابس التي قد تعكس الدور الروحي للملك هي زوجان من الأجنحة يحاكيان أجنحة الصقر (المعبود حورس) وأجنحة النسر (المعبودة نخبت). كان لهذه الأجنحة أكمام قصيرة، بحيث يمكن ارتداؤها على الجزء العلوي من الجسم من الأمام والخلف بحيث تصير أجنحة الملك الرمزية، كما تحيطه بالحماية الإلهية.
من بين المكتشفات في مقبرة توت عنخ آمون، كانت هناك أيضًا ملابس مرتبطة بركوب العربات. دفن الملك مع أزواج مختلفة من الجوارب الكتانية (ربما كحماية من الغبار والأحجار الصغيرة)، بالإضافة إلى أزواج عديدة من القفازات العادية والقفازات المقواة، منها السادة والمنقوش. صُنعت القفازات المقواة بطريقة تسهل من الإمساك بزمام الحصان الذي يسحب العربة الملكية.
ترتبط الملابس الأخرى الموجودة في المقبرة بدور توت عنخ آمون كصياد (للحيوانات، وكذلك لأعداء مصر). من بين المنسوجات المسجلة، على سبيل المثال، كانت هناك قطعة قماش طويلة ورفيعة بها خطوط حمراء وزرقاء على الحواف. في البداية، وصفها كارتر وفريقه بأنها عمامة. ولكن لاحقًا اتضح أنها كانت "مشد" أو "كورسيه" الصيد الملكي الذي كان يُلف حول الجزء العلوي من جسم الملك عند ركوبه على العربة لتلطيف أثر الاهتزازات المستمرة (لم يكن للمركبة سوست) أثناء عبورها فوق الحجارة. صُور هذا النوع من المشدات وكيفية ارتداء توت عنخ آمون له أيضًا على عدد من الأغراض في المقبرة.
في بداية هذا المقال، أشرت إلى أن الناس في جميع أنحاء العالم يعرفون اسم توت عنخ آمون، ولكن ما يعرفونه، في واقع الأمر، هو مجموعة مختارة من الأغراض الساحرة من مقبرته. ولكن عندما ننظر عن كثب إلى الملابس التي كان يرتديها، نبدأ في رسم صورة لحياته، ويتحول أمامنا لشخص دبت فيه الحياة، هامسًا بحكايات آسرة تمتد عبر آلاف السنين.

نموذج بالحجم الطبيعي لتوت عنخ آمون يُعتقد أنه استخدم كمانيكان لحمل ملابسه ومجوهراته أو للخياطين الملكيين. خشب وجص ملون. عهد توت عنخ آمون، الأسرة 18، (1336-1327 ق.م. تقريبًا)، المملكة الحديثة.
© أندرياس فوجلين بإذن من متحف بازل/مجموعة لودفيج
سترة طفل طرزتها جيليان فوجلسانج-إيستوود. كانت الأصلية في حالة سيئة نظرًا لتعرضها للمياه لفترات طويلة أثناء الفيضانات التي غمرت أجزاءً من المقبرة. استغرق التوصل إلى التصميم الأصلي وقتًا طويلاً، وذلك باستخدام صور فوتوغرافية ملونة 1:1 وتقليدها قطعة بقطعة، واستغرقت خياطة كل “الأزرار” الذهبية على السترة يومين كاملين.
© جان بيرج، بإذن من متحف المنسوجات، بوراس.

تقليد سترة مطرزة بالخرز وجدت في حالة سيئة للغاية. تألفت من صندوق من الخرز وقطع مفتتة من الكتان المسود مع بعض الخرز الباقي في مكانه الأصلي. أعاد تركيبه أحد الطلاب في مركز أبحاث المنسوجات في لايدن واستغرق صنع الخطوط المطرزة بالخرز في المنتصف وعلى الأطراف ثلاثة أشهر. كانت هذه السترة ترتدى في الاحتفالات الرسمية عندما يكون الملك جالسًا. لم يكن هناك تطريز بالخرز في الخلف ليتمكن الملك من الجلوس دون كسر أي شيء. لابد وأن آلاف الأقراص الذهبية الموجودة على السترة كانت تتلألأ حين يرتديها الملك تحت أشعة الشمس.
© جان بيرج، بإذن من متحف المنسوجات، بوراس.
سترة البط نسجها طالب في كلية المنسوجات السويدية بجامعة بوراس. كانت هذه القطعة سترة ذات جودة عالية تُرتدى بشكل يومي. يسير "البط" على الأطراف الجانبية والسفلى ثم يطير فجأة محلقًا بالأعلى (أسفل فتحة العنق مباشرة، كما يمكن رؤية صف آخر من خلال فتحة العنق). كانت السترة الأصلية في حالة جيدة. نسجت الياقة المستنسخة ماري إكستيدت بييرسينج.
© جان بيرج، بإذن من متحف المنسوجات، بوراس.

تقليد زوج من الجوارب الكتانية. أعطى هوارد كارتر قياسات خاطئة لهذه الجوارب في السجلات الرسمية، لذلك كان الجزء السفلي ضيقًا جدًا في أول زوج أعيد نسجه. الجوارب مصنوعة من طبقتين من الكتان، واحدة من الداخل رفيعة جدًا والأخرى الخارجية أكثر سمكًا. كانت الجوارب الأصلية في حالة معقولة. أعادت النسج جيليان فوجلسانج-إيستوود.
© جان بيرج، بإذن من متحف المنسوجات، بوراس
جيليان فوجلسانج-ايستوود
مدير مركز أبحاث النسيج في مدينة ليدن بهولندا ومتخصصة في الأزياء والنسيج بالشرق الأوسط. عملت لسنوات عديدة كعالمة نسيج أثري في مصر، وهي مؤلفة ومحررة للعديد من الكتابات الموسوعية الشهيرة من ضمنها "الملابس المصرية 1 ،) القديمة" )بريل، 39 "وموسوعة التطريز من العالم العربي" )بلومزبري الأكاديمية، 016(، وغيرها. 2