ظل السينمائيون الأوائل في مصر يغامرون بمبادارتهم الفردية المحدودة حتى جاء ستوديو مصر ليحول السينما المصرية الي صناعة متكاملة وركيزة من ركائز الإقتصاد.
على غير العادة، انتابت الحيرة المخرج شادي عبدالسلام، حين طلب منه مجلس إدارة بنك مصر تنفيذ فيلم، لا تتجاوز مدّته الثلاث دقائق، عن تلك المؤسسة العريقة بمناسبة يوبيلها الفضى. وعلى مدار عدة ليال، اجتمع شادي مع خلصائه. دارت مناقشات، وتوالت اقتراحات، بعضها يتعلق بإبراز صورة طلعت حرب، بملامح وجهه المميزة، مع مزجها بلقطات سريعة من المصانع التى أنشأها. أحد المتواجدين فكر فى رصد صور من ثورة 1919، تتخللها صور لفروع بنك مصر، الذى كانت بدايته عام 1920، تأكيدا بأنه بمثابة إعلان استقلال اقتصادي. ثمة من طالب بالتركيز على ستوديو مصر، كإنجاز حضارى، مادى ومعنوى.
تزاحمت الأفكار، وكل منها لا تخلو من وجاهة، لكنها، على الشاشة، تتطلب زمنا أكثر من الثلاث دقائق.
أخيرا، برق الفيلم كاملا فى خيال شادى عبد السلام، فأثناء زيارته اليومية – حينها – للبنك، رأى حركة عمال بالغة الهمة والنشاط. العشرات يصعدون ويهبطون فوق السقالات المقامة عند الواجهة، يستكملون تلميع اللافتة النحاسية الضخمة. فورا، أحضر الكاميرات وأخذ يرصد الحركة الدؤوب لإزالة ما علق على كلمة “مصر” من صدأ وغبار.

مبني ستوديو مصر.
في عام 1925، أسس طلعت حرب شركة مصر للتمثيل والسينما، لإنتاج أفلام وثائقية تروج لدخول مصر العصر الصناعي المزدهر. وبحلول عام 1935، أدرك طلعت حرب أن الأفلام الروائية هي المستقبل، وأقام استوديو مصر ليكون منطلقاً لصانعي الأفلام المصريين لتصوير وإخراج الأفلام وكذلك تنفيذ المونتاج لها داخل مصر. وفي ظل إمكانيات ستوديو مصر الكبيرة، لم يعد على المخرجين التسرع في تنفيذ مشاهد أفلامهم على عجل تحت ضغط المنتجين. حيث صار بمقدورهم بناء مواقع تصوير أكبر وأخذ وقتهم الكافي في صنع أفلامهم وتقديمها في أحسن صورة. فقد كان الإنتاج المتسرع أكبر مشكلة واجهت الأفلام المصرية التي أنتجت قبل عام 1935.
ارشيف بنك مصر
هذا العمل القصير، يعبر عن رؤية شادى عبدالسلام، المتطابقة مع وجهة نظر طلعت حرب: المصريون يستطيعون، كغيرهم، إعادة اكتشاف أنفسهم. بالتالى، أقدم طلعت حرب على إقامة مشاريعه فى مجالات الصناعة المختلفة، ولم يفته كذلك الاهتمام بالبناء الثقافى، فقام حينها بإنشاء مطبعة على أحدث طراز، بعد عامين فقط من تأسيس بنك مصر.
وإذا كان طلعت حرب اهتم بالكتاب كوسيلة للثقافة ونشر الوعى، فإنه انتبه إلى الدور الحضارى للسينما، على نحو يتأكد بتصريحاته عن دور الأفلام فى تشكيل وعي الناس. بالتالى، أقدم على إقامة “ستوديو مصر” الذى يعد المشروع الأهم في تاريخ السينما المصرية.
وإذا كان فيلم “لاشين” قد تعرض للتدمي بمخالب السلطة الملكية، فإن “السوق السوداء” لقي حتفه على يد الجمهور.
فيما قبل “ستوديو مصر”، جرت عدة محاولات بدائية، عشوائية، لإقامة ستوديوهات نفذت بداخلها بعض الأفلام. لكن حين قرر طلعت حرب دخول عالم السينما، اعتمد على العلم والعمل. أرسل أربعة شباب للدراسة فى ألمانيا، المتفوقة فى الفن السابع، كما استقدم منها المعدات والآلات فضلا عن خبراء فى المونتاج، والتصوير، والصوت، والديكور، على رأسهم المخرج فريتز كرامب.
جاء يوم الافتتاح: 12 أكتوبر 1935. مساء يتلألأ بالأنوار والآمال. صفوة المجتمع المصري توافدت أيامها: أدباء، وصحفيون، وفنانون، ورجال أعمال. ويصف المخرج أحمد كامل مرسى ما جرى، بعد طوافهم بأقسام الاستوديو، فيقول “ذهبنا إلى قاعة العرض. عرضوا علينا المفاجأة الكبرى، وهو الشريط السينمائى الذى يصوّر وصولنا إلى الاستوديو. لقد كان حسن مراد يتابع الزوار ويلاحقهم ويصّورهم ثم يبعث بما يصوّره إلى المعمل أولا بأول. بالتالى يتم التركيب والتحميض والطبع”.

كان أحمد سالم، النجم الممثل والمدير والكاتب والطيار، خريج كامبريدج الذي عمل في الإذاعة الوطنية، أول مدير لستوديو مصر في عام 1935. وفي عام 1938، منعت وزارة الداخلية عرض فيلم “لاشين”، أحد أوائل الأفلام التي أنتجها الاستوديو، بناء على طلب من العائلة المالكة بزعم أنه يحرض على الثورة. واستقال سالم من منصبه في ستوديو مصر احتجاجا على ذلك القرار، وأسس شركة الإنتاج الخاصة به. وقد عاش سالم حياة حافلة، فتزوج خمس مرات، وتعرض لمحاولة قتل (يقال أن من أطلق عليه النار زوجته الممثلة أسمهان في ذلك الوقت)، وحكم عليه بالسجن قبل أن تتم تبرئته، وتوفي عن عمر 39 عاماً بسبب مضاعفات نجمت عن واقعة إطلاق النار. كان محور العديد من القصص الأسطورية عن الصراع على سيدات المجتمع، وكان في واحدة منها طرفاً أمام الملك فاروق نفسه.
اهداء أحمد حامد
مِن “ستوديو مصر” سيصدح صوت أم كلثوم فى “وداد” و”نشيد الأمل”، وتطالعنا الحارة المصرية بسكانها فى “العزيمة”. نرى، لأول مرة، صورة عماد حمدى فى “السوق السوداء”، وستسطع أسماء صلاح أبو سيف، وكمال الشيخ، وأحمد بدرخان، وكمال سليم، وكامل التلمساني. أصبحت أفلام ستوديو مصر جزءًا حيًا، مضيئًا، فى قائمة كلاسيكيات السينما المصرية.
بعد إنشاء “ستوديو مصر”، أقيمت عدة استوديوهات أخرى، مثل “الأهرام”، و”ناصبيان”، و”جلال”، و”نحاس”، كلها أقل شأنا من “مصر”، لكن حاولت، بكل طاقتها، أن تغدو قريبة من مستواه.
اهتم “ستوديو مصر” بتسجيل الأحداث الكبرى التى تقع فى المحروسة، فيما يشبه “جريدة مصر الناطقة” فيما بعد، حيث تُعرض الشرائط الوثائقية قبل عرض الفيلم الروائى. لا يزال فى حوزة الاستوديو، أو فى أماكن أخرى، تسجيلات نادرة على قدر كبير من الأهمية، مثل رصد استعدادات القصر لزواج الملك فاروق من الملكة فريدة عام 1938. وتحت عنوان “جريدة إخبارية لأهم الحوادث، إنتاج شركة مصر للتمثيل والسينما”، نقرأ جملة “اجتماع ملوك العرب ورؤسائهم وأمرائهم فى زهراء أنشاص “1946: تتوالى لقطات لوصول شكرى القوتلى رئيس الجمهورية السورية، والملك عبدالله ملك شرق الأردن، والأمير عبدالله الوصى على عرش العراق، والشيخ بشارة الخورى رئيس الجمهورية اللبنانية، والأمير سعود ولى عهد المملكة العربية السعودية، والأمير سيف الإسلام نجل جلالة الإمام يحي ملك اليمن. وها هو الملك فاروق يستقبل القادمين، سواء فى مطار أنشاص أو فى ذهبيته. اللافت فى هذا الشريط الوثائقى النادر، ذلك المستوى الرفيع فى التصوير والتعليق.
المصور هنا، هو حسن مراد، من الرعيل الأول لمصّورى ستوديو مصر. أرسله طلعت حرب للدراسة فى برلين عام 1933، ليعود قبل افتتاح الاستوديو. ولأنه أصلا من دارسى الفنون الجميلة، تمتعت مشاهدة بالحيوية وحسن التصرف، سواء بالتنوع فى لقطاته ما بين المتوسطة والكبيرة، أو بتعمده وضع الكاميرا فى مستوى منخفض كى يبدو الملوك والرؤساء أضخم مما هم عليه، فضلا عن تلك الحيوية فى الانتقال من مكان لآخر. أما التعليق فأُسند إلى صاحب الصوت العميق والمؤثر؛ الممثل والمخرج إبراهيم عمارة.
دأب طلعت حرب، الاقتصادى الوطنى، على الدعاية لمشاريع بنك مصر، فإلى جانب الفقرات المتعلقة بافتتاح المصانع، لم يفتْه أن يكتب، على الشاشة، فى بداية أفلامه عبارات مثل “الأقمشة المستخدمة فى الملابس من إنتاج شركة مصر للغزل والنسيج وشركة مصر لنسيج الحرير”.

لقطة من فيلم “وداد”، أول إنتاج لاستوديو مصر. وكان أول ظهور سينمائي لأم كلثوم، في محاولة من استوديو مصر لتقديم نموذج مصري ينافس أفلام هوليوود التي كانت تهيمن على دور العرض وتبهر الجمهور المصري. وكان اختيارهم لأم كلثوم باعتبارها نجمة غناء شهيرة ورمز وطني محترم، في تأكيد على دخول المصريين عالم صناعة الأفلام بكل قوة. كتب سيناريو “وداد” الشاعر أحمد رامي، وأخرجه فريتز كرامب ومساعده أحمد بدرخان. نجح الفيلم نجاحاً كبيراُ، وكان أول فيلم مصري يتم عرضه في مهرجان البندقية السينمائي الدولي عام 1936، مما ساعد على تعزيز مكانة ستوديو مصر في هذا المجال.
عدسة حسين بكر
لكى تستكمل “شركة مصر للتمثيل والسينما” أدواتها، قامت بإعداد دار عرض على أحدث طراز، تليق باسم ذلك الصرح الكبير؛ “سينما ستوديو مصر” بشارع عماد الدين، على ناصية شارع نجيب الريحانى. أصلا، كانت مسرحا تملكه مدام مارسيل، الفرنسية الأصل، صاحبة صالة “دى باري”، تقدّم فيه إلى جانب الرقص والغناء، مسرحيات فى فصل واحد.
طبعا، جُهزت الدار بأفضل آلات العرض، مع تبطين الحوائط لامتصاص الصوت: مقاعد وثيرة ومريحة؛ مشّايات فى الممرات؛ ستائر ترفع لتظهر شاشة العرض. فى جملة واحدة: أمست هذه الدار جديرة بعرض أفلام ستوديو مصر، وشهدت عشرات المواقف الحلوة والمرة، العامة والخاصة، لا تعبر عن مباهج ومتاعب ستوديو مصر فحسب، بل تجسد الأجواء المعتملة فى المحروسة.

لقطة من فيلم “لاشين” (1938). على الرغم من أن إنتاج “لاشين” كان من قبل ستوديو مصر، المؤسسة التي كانت تمثل قلب مشروع وطني، إلا أن الفيلم لم يفلت من الرقابة. تدور أحداثه في مدينة صغيرة خيالية في مصر العصور الوسطى، حيث يسيء الوزير كانجيار، مستغلاً ضعف السلطان، استخدام سلطاته ويضطهد الشعب. ويحاول “لاشين”، قائد الجيش النبيل، إبلاغ السلطان بما يجري، ولكن كانجيار يتهمه بالتآمر على نظام الحكم، ويعتقله. وتعرض النسخة التي تم عرضها مشاهد الشعب وهو ينتفض لنصرة “لاشين”، فيقرر السلطان الإفراج عنه وتنصيبه رئيساً للوزراء محل كانجيار. ومع ذلك، فإن النسخة الأصلية للفيلم، التي عثر عليها كاتب هذه المقالة مصادفةً، تحمل أحداثاً مختلفة. حيث يطيح كانجيار الفاسد بالسلطان الظالم. وفي المشهد الختامي نرى أنصار كانجيار وهم ينشدون ويهتفون باسمه داخل القصر الملكي بينما يهتف أنصار لاشين باسمه واقفين خارج بوابات القصر. وقد اعتبرت الرقابة أن تلك النسخة ذات النهاية المفتوحة تحمل إساءة للتاج المصري، وأمر وزير الداخلية بمنع عرض الفيلم بعد أن كان العرض الأول قد تحدد في سينما ديانا في القاهرة يوم 17 مارس 1938. وكان هذا الفيلم هو الثاني والأخير لفريتز كرامب مع استوديو مصر. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم تهريب المخرج خارج البلاد هرباً من البريطانيين.
من أرشيف بهنا.
فى واقعة فريدة من نوعها، تم إيقاف عرض فيلم “لاشين” عقب حفلته الأولى فى 8/1/1938. الرقابة انزعجت منه تماما، ذلك لأنه يتحدث عن ملك منغمس فى ملذاته، لا يلتفت للغزاة المتربصين على الحدود، ولا ينتبه للخونة داخل قصره. لا يكترث بالمجاعة التى تهدد البلاد فى الداخل، بينما قائد الجيش، لاشين، تؤرقه الأوضاع كافة. تندلع الثورة، يجسدها الفيلم ببراعة، تشارك فيها مجاميع ضخمة تطالب بالطعام والعدل.
المثير فى هذه المصادرة أن “لاشين” من إنتاج “ستوديو مصر”، التابع لبنك مصر، المنتمى لطلعت حرب “باشا”. لكن الواضح أن الاقتراب من القصور الملكية أمر يستوجب العقاب، سواء للأفندية أو البكوات أو الباشوات.
إبان تنفيذ “لاشين” اندلعت معركة بين شباب المصريين من ناحية، وفريتز كرامب مع بعض الأخصائيين الألمان والأجانب من ناحية أخرى، انتهت بإسناد إدارة الاستوديو إلى قيادات مصرية وتمصير الوظائف شيئا فشيئا.
من الإنصاف القول أن فريتز كرامب كان مخرجا متمكنا تماما من أدواته وليس مجرد “كهربائي” كما زعم البعض، فسواء فى فيلمه الأول “وداد” أو الثانى “لاشين” يبدو واضحا أنه صاحب خبرة ودراية بكيفية تحريك الممثل والانتقال به من انفعال لآخر، فضلا عن مهارته فى رصد تدفق الجماهير على نحو لم نشهده على شاشة السينما المصرية من قبل أو من بعد.
بعد “تنقية” “لاشين”، وحذف مشاهد منه، وربما تغيير نهايته، أعيد عرضه فى 14/11/1938. وما أن اندلعت الحرب العالمية الثانية حتى جرى تهريب فريتز كرامب من مصر، خوفا من اعتقال القوات البريطانية له.
من بوتقة “لاشين”، تنطلق أسماء بعض المساعدين ليصبحوا من أمهر صناع السينما: عبد الفتاح حسن، مساعد الإخراج، الذى عمل في “الحل الأخير” و”محطة الأنس”. كذلك، وليّ الدين سامح، المشارك فى تصميم ديكورات “لاشين” البديعة، الذى سيغدو من أهم مهندسي المناظر، ابتداء من “دنانير” لأم كلثوم وإخراج أحمد بدرخان 1939، حتى “الناصر صلاح الدين” 1963، كما أخرج “لعبة الست” 1946 ببطولة لنجيب الريحاني. أما مساعد الإخراج، نيازي مصطفى، فإنه يستحق وقفة.
أٙنتج ستوديو مصر “سلامة في خير” لنيازي مصطفى 1937، بديكورات تتواءم تماما مع الأوضاع الاجتماعية والنفسانية لأبطاله، وهى إحدى مميزات فنان المناظر ولي الدين سامح. ويعتبر الفيلم ميلادا جديدا لنجيب الريحانى؛ صحيح أنه قدم فيما قبل عدة أعمال، لكنها كانت متواضعة إنتاجيا وفنيا. لذا، بدا واضحا، هذه المرة، سخاء إنتاج ستوديو مصر الذى أسند البطولة، مع الريحاني، لراقية إبراهيم، وروحية خالد، وحسين رياض، وشرفنطح، ومنسي فهمى، وحسن فايق، واستيفان روستى، وفؤاد شفيق، وفردوس محمد، وآخرين.

اعلان في مجلة لفيلم “العزيمة” (1939) أحد أهم أفلام ستوديو مصر، من إخراج كمال سليم (1913 – 1945).
حادث طريف وقع ليلة افتتاح الفيلم الأخاذ، المهم “العزيمة” فى 6/11/1939. طلب مخرجه النابه كمال سليم من زوجته، ذائعة الصيت، فاطمة رشدى، بطلة الفيلم كذلك عدم الحضور. هو، من مدرسة ترى أن المخرج سيد العمل السينمائى، ويليق به أن يكون مركز أضواء الاحتفال. بينما هي تؤمن بأحقية الممثلة الأولى، خاصة إذا كانت من طرازها، أن تمسي عروس الليلة. ما حصل أن النزاع اشتدّ بينهما فهددها بالطلاق. ثم ارتدى حلته الأنيقة، ووضع البابيون على رقبته، ثم صفق باب الشقة خلفه، تاركا إياها غاضبة، ساخطة. فى دار سينما ستوديو مصر، استقبله الجمهور بحرارة. بعد الشرائط القصيرة، الوثائقية، والدعائية، جاءت استراحة قصيرة، بدأ بعدها عرض “العزيمة”، برونقه المصرى، الشعبى، الذى لمس شفاف قلوب المشاهدين. فجأة توقف عرض الفيلم. أضيئت الدار، وإذا بفاطمة رشدي، بطلعتها البهية، تطل على الجمهور فى البلكون تلوح له بذراعيها الفاتنتين. لك أن تتخيل رد فعل كمال سليم.
ارشيف بنك مصر
يعتبر الفيلم كذلك إضافة ذات شأن للأفلام الكوميدية، ففيه نشاهد المفارقات الأخلاقية والاجتماعية، والمواقف التى تتضمن معان إنسانية. ولايزال “سلامة في خير” محتفظا ببهائه بعد ثمانية عقود من تحقيقه.
مرة أخرى، يلتقي نيازي مصطفى، نجيب الريحاني، فى رحاب “ستوديو مصر”، تحت عنوان “سي عمر” 1941، حيث كوميديا الشبيهين، مع عشرات المواقف النقدية الساخرة.
وفي المسافة الزمنية بين “سلامة في خير” و “سي عمر”، يحقق نيازى مصطفى بإنتاج ستوديو مصر الفيلم الاجتماعى “الدكتور” 1939، الذى يتضمن دعوة للالتفات إلى الريف والاهتمام بصحة الفلاحين. ثم يقدّم الفيلم الموسيقى، الاستعراضى “مصنع الزوجات”، بنزعته للمساواة بين الرجل والمرأة.
نيازي مصطفى، الرائد، القادم من غرفة المونتاج، انطلقت مواهبه فى “ستوديو مصر” الذى أتاح له فرصة إخراج “رابحة” 1943، فاتحا الباب للأفلام البدوية، العروبية، باللهجة التى ابتدعها الشاعر الكبير، المتميز، بيرم التونسى، مستحدثا طريقة للنطق يتلقفها اليمنى بترحاب لا يقل حماسة عن المغاربى.
وإذا كان فيلم “لاشين” قد تعرض للتدمي بمخالب السلطة الملكية، فإن “السوق السوداء” لقي حتفه على يد الجمهور.
“السوق السوداء”، الذى أعيد له الاعتبار بعد عدة عقود من تلك الليلة السوداء التى عرض فيها لأول مرة – 12/6/1945 – فقبل نهاية الفيلم أخذ الجمهور يتذمر ويحتج بغضب، يعلو صفيره واستهجانه، وما أن أضيئت صالة سينما ستوديو مصر حتى التف بعض المتفرجين حول المخرج كامل التلمسانى، وطاقم عمله، وأصدقائه: أحمد كامل مرسى، وسعد نديم، وعبد القادر التلمسانى، والممثل الناشئ – حينها – عماد حمدى، وعقيلة راتب، وصلاح ابو سيف. تطور الاحتجاج إلى التطاول بالأذرع، وخرج الفنانون فى حماية الشرطة.
وفى محاولة لتفسير ما حدث، قال البعض إن نفحة الحداثة التى يحملها الفيلم لم يتحملها الجمهور، خاصة بالنسبة للتصوير الذى قام به أحمد خورشيد، المعتمد على درجات الإضاءة المنخفضة، خاصة فى لقطات الدسائس والمؤامرات، فضلا عن تعدد مستويات الرؤية فى اللقطة الواحدة. لكن البعض الآخر لمس سببا جوهريا يتعلق بطبيعة المتفرجين أيامها: إنهم، من ذات الفئة التى يفضحها الفيلم، تجار السوق السوداء، اللصوص والبلطجية، المتعاملين مع معسكرات قوات الاحتلال. بعبارة أخرى، يهدف الفيلم إلى القول إن المجاعة ليست قدرا، لكنها من صنع المستغلين، ممن ماتت ضمائرهم. أي الفئة التى ظهرت على السطح، خلال سنوات الحرب، الذين يتوافدون على دور العرض.
وخلال سنوات الحرب، دخل مجال السينما أغنياء الحرب، والذين هم مجموعة من التجار لم يكن لهم سابق علاقة بفن السينما، لذا ارتفع عدد الأفلام المنتجة من “16” فيلما عام 1943، إلى 28 عام 1944 إلى 67 عام 1945، فيما حاول ستوديو مصر وقتها الصمود بأفلامه الجيدة أمام طوفان الأفلام الطفيلية.
وفى سابقة لم تتكرر – في حدود علمي – حضر الملك فاروق عرض أحد أفلام ستوديو مصر، في مساء 10/12/1944، مع افتتاح “غرام وانتقام” ليوسف وهبي. ليس تحية لروح أسمهان التي رحلت منذ خمسة شهور إثر حادث أليم، لكن كي يشاهد استعراض مواكب العز، أو أمجاد الأسرة العلوية، الذى كتبه أحمد رامى، ولحنه رياض السنباطى، وتغنت به أسمهان بصوتها الصداح، وأخرجه يوسف وهبي بالسخاء المعهود من ستوديو مصر، سواء فى الديكورات أو مسيرات الخيول، أو المجاميع البشرية، مما أبهج الملك وجعله يمنح يوسف وهبي رتبة البكوية.
مرت السنوات، صمد ستوديو مصر للتغيرات والتقلبات، يتعثر وينهض، إلى أن جاءت السبعينيات برياحها العاصفة. انتقلت ملكية الاستوديو ودار العرض، من يد مرتعشة إلى يد غاشمة. أخذ الإهمال يزحف على الصرح الشامخ، شباك العنكبوت تتزايد فى الزوايا، ومياه الصرف الصحى تغرق البلاتوهات. أما دار العرض، فبدورها، تم بيعها من واحد لآخر، من بينهم شذاذ آفاق، وبينما ذهبت أوراق ملكيتها للمحاكم، أصبحت موئلا للمشردين وتجار المخدرات، ومجرد ذكرى تدخل فى ظلال العتمة والنسيان.
الأكثر قراءة

الحفاظ على التارخ لا يتم فقط في المتاحف، بل يساهم الجامعون المنهجيون في الحفاظ على التراث الثقافي ايضاً. هذه قصة جامع متحمس يحافظ على مقتطفات صغيرة من تاريخ مصر ، طابعًا بريدياً تلو الآخر.

شهدت السينما المصرية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مرحلة غير مسبوقة من النضج والتطور الفكري على يد جيل من المخرجين الذين سيكون لهم شأن كبير فيما بعد

جولة في أرشيف السينما المصرية، الذي يكاد لا يكون موجوداً، تصحبنا فيها مسؤولة أرشيف "“سيماتك”"؛ مركز الفيلم البديل بوسط القاهرة، ومساحة تحتفي بتنوع وجمال وقوة الأفلام المحلية والعالمية.

مشروع قومي تأثر بالأجواء والتوجهات السياسية ولم يحظ بالنجاح المطلوب رغم دعم الدولة له.

على الرغم من صعوبة تقبل المجتمع لمهنة الراقصين، ألا ان هذا المجتمع نفسه مولع بالرقص والإستعراض حتى ان الفيلم الذي يخلو منهما غالباً ما يفشل جماهيرياً

تدين السينما المصرية بالكثير لمخرجين طموحين تمردوا على قاعدة "الجمهور عاوز كده"